الأربعاء، 25 نوفمبر 2020

ثورات وثروات: وما خفي كان أعظم ...!

   

تدوين: يحيى السلماني

تتصدّر الصراعات السياسية قائمة نشرات الأخبار في مُختلف القنوات الفضائية، وتفرد لها مساحات واسعة في الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية (المطبوعة والإلكترونية)، تُناقش فيها بإسهاب الدوافع الأساسية لهذه الصراعات المُزمنة التي طالما ما تنتهي بحروب دمويّة طاحنة تقضي على البشر والشجر والحجر، ألا أن غالبية هذه النشرات والتقارير الإخبارية، حسب مُتابعتنا اليومية، تُركّز على تغطية مواقع القواعد العسكرية (المُتحالفة)، وتتعطشّ لإبراز صفقات التسلّح، وتستميت في الترويج والتقريض للحراكات الدُبلوماسية التي أغلبها ما تكون كاذبة ومُلفّقة ومموّهة. في المُقابل، لا تُعطي التغطية الإعلامية ذات الاهتمام للاثار المأساوية التي تُخلّفها الحروب وتُلقي بظلالها على صحة الإنسان ومُحيط بيئته، وبهذا نجدُ أن مشاهد تتعّلق بهموم الإنسان وتدهور عناصر البيئة الطبيعية باتت "تتذيّل" قائمة أجندة نشرات الأخبار في القنوات الفضائية، وغالبا ما يُفضّل مُحررّي الصحف نشرها "مُنزوية" في زوايا إحدى الصفحات الداخلية لصحافتنا العربية.

منذ عقود وبلداننا العربية ترزح تحت وطأة الحروب المُدمّرة، وتتجشّم العناء للتخلص من أزمات الصراعات السياسية، وإن كانت أسباب اندلاع هذه الصراعات والحروب تختلف من بلد إلى اخر، ألا أنها تجتمع في أن غالبيتها تلتقي في نقاط التنافس على النفوذ السياسي، وتتقاطع معظمها مع مصالح التحكّم على مداخل المواقع الاستراتيجية والاقتصادية لهذه البلدان، وبهذا التوجّه "البرجماتي" الصرف أضحى عالمنا العربي مُتشرذم، يتامر على بعضه البعض، تُبالغ حكومات بعض من هذه الدول وميليشياتها في تخصيص أوراقها النقدية من فئة "المليارات" لتطريح وإرباك تطلعّات الشعوب ثم إفساد امالها بمستقبل حياة أفضل، والمُضحك المُبكي أن تتحصّن نُخبنا "الاستبدادية" وتستجير نهاراً جهاراً، بالعدوّ من غدر الجار العربي، حتى بات يصدق فيها قول الإمام الشافعي "ويأكل بعضنا بعضاً عيانا".

ويُعزّز هذه الصراعات الدامية التي يقف ورائها من يقف من "سماسرة" الحروب، الدعم اللوجستي غير المسبوق الذي تتكفّل برعايته الدول الغربية، وتجتهد كما عهدناها دائماً، وتعمل بجدّية على إطالة أمد هذه النزاعات والحروب لتتسيّد الموقف توافقاً مع سياسة "فرّق تسد"، وهي سياسة قد يرى البعض أنها مُستحدثة، ألا أنها سياسة قديمة قدم التاريخ السياسي للشعوب، فقد اتبعها "السومريون والمصريون واليونانيون القدماء لتفكيك قوى أعدائهم، وتحييد هذه القوى من خلال توجيهها داخليا واحدة ضد الأخرى"، وتسير القوى الحديثة اليوم على ذات النهج فتروّج بسياستها الوقحة هذه "صفقات" التسلّح، وتُازر "صفعات" التفرّق والشتات، وبإطالة أمد الحروب الطاحنة، ومطّ فتراتها الزمنية قدر الإمكان، تتراجع دُولنا العربية مئات بل الاف الخطوات في شتى مجالات الحياة العلمية والصحية والبيئية، ويتهالك وضعها الاقتصادي، ويوهن ثقلها السياسي لتبقى دولٌ ضعيفة هزيلة مُتمزّقة تابعة مُنقادة تنصاع لأوامر وتوجيهات "ثلّة" من رؤوس تلك الدول المُنافقة المراوغة والمحتالة التي تظهر أمام الجميع بأنها تلعب دور الداعم و"الوسيط" السياسي، وتطلّ أمام وسائل الإعلام في مؤتمرات صحفيّة "مُبتدعة" وكأن مفاتيح الحلول لهذه الصراعات الدامية لا يُمكن تحقيقها واكتسابها إلا بتقديم تنازلات مادّية ولوجستية تتقصدّها لإذلال وإخناع حكومات دولنا العربية "المُنبطحة" واحتقار وازدراء شعوبها "اليائسة" التي تعيش البؤس بعد البؤس.

وإذا ما تنبّهناّ إلى أن الحروب أضحت أكثر جهامة وقساوة على الإنسان فهي في ذات الوقت أشدّ فظاظة وصلابة على البيئة وعناصرها الأحيائية، وإذا ما تيّقننا بأن جميع المواثيق الدولية "تُحرّم" الاستعانة بجميع أنواع الأسلحة الضارّة بالبيئة، واعتبار الإضرار المُتعمّد بعناصرها الطبيعية أحد الجرائم ضد الإنسانية، إذاً ما الذي يدفع وسائل إعلامنا العربي إلى التراجع عن طرح الماسي الانسانية والمشاكل البيئية الناجمة عن الحروب المُشتعلة بالمنطقة بشفافية، ووضعها في أولويات القائمة الإخبارية؟ حتى لدرجة أن برامج "الكُوميديا السوداء" التي عولنّا عليها الكثير أصابتنا بالخيبة والإحباط لتغافلها الشأنين الإنساني والبيئي وتشاغلها بالتساخر على رموز الأنظمة ممن "تحكّموا فاستطالوا في تحكّمهم"، والتندّر على زبانيتهم.    

وبشكل أكثر دقّة، يشير تقرير صادر عن برنامج الامم المتحدة للبيئة في نوفمبر 2018م إلى أنه على مدار أكثر من ستة عقود، وقعت نزاعات مُسلحة في "أكثر من ثلثي مناطق التنوع البيولوجي في العالم"، وبهذا وفي العام 2001م، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة، يوم السادس من نوفمبر "اليوم الدُولي لمنع استغلال البيئة في الحروب والنزاعات المسلحة"، وفي السابع والعشرين من شهر مايو من عام 2016م اعتمدت الجمعية قرارًا يعترف "بدور النظم البيئية الصحية والموارد المدارة بشكل مستدام في الحد من مخاطر النزاعات المسلحة، وأكدت من جديد التزامها بالتنفيذ الكامل لأهداف التنمية المستدامة". لكن، ما جدوى هذا القرار إن لم يتم مُتابعة تطبيقه على أرض الواقع؟

 لا يخفى على أحد من أن صفقات تجارة السلاح تُعدّ من أغلى الصفقات رواجاً في العالم بسبب الحروب والنزاعات المحلية والدولية وفي مقدمتها نزاعات الشرق الشرق الأوسط، ويُقدّر الخبراء في معهد "سيبري" الدولي لأبحاث السلام في إستوكهولم "أن صرف جزء صغير من أموالها يكفي لحل مشاكل الفقر والبطالة في العالم بأكمله". وتشير البيانات الواردة في بيان هذا المعهد  بأن صادرات الأسلحة "الأمريكية والروسية والفرنسية والألمانية والصينية تُقدّر بعشرات المليارات سنوياً، وتستحوذ على ثلاثة أرباع صادرات العالم"، وما يهمنا هنا هو أن "كمية السلاح الذي استوردته بلدان الشرق الأوسط إزداد بأكثر من الضعف ما بين عامي 2013-2017، إذ استحوذت مجتمعة على ثلاثة أرباع صادرات العالم"،حسب البيانات الصادرة عن معهد "سيبري".

وبنظرة سريعة على أثر الحروب على الإنسان والبيئة، نجد أن الأراضي الفيتنامية وغاباتها أبادتها القوات الأمريكية خلال الحرب الفيتنامية بهدف حرمان مُقاتلي (الفيتكونغ) من الغطاء النباتي الذي مكّنهم من شنّ هجمات ضدها، وفي النزاعات الدموية المسلحة في الكونغو خلال منتصف التسعينات "أبيدت الاف من الأحياء البرية التي كانت مصدراً للحصول على لحوم حيوانات الأدغال للمقاتلين والمدنيين الذين يكافحون من أجل البقاء على قيد الحياة"، كما دمرّت النزاعات "95% من الغابات في أفغانستان"، لكن المؤسف أننا لم نستفد من تلك الدروس.   

في الجانب الاخر، لم يكن الإنسان في منأى عن الاثار المؤلمة التي تخلفها هذه النزاعات، واليوم تزدحم مخيمات اللاجئين بماسي عشرات الاف من الأسر يتهاوى أمامها أمل الحياة، حيث يضطّر عشرات الالاف من البشر إلى الفرار مُشكّلين هجرات جماعية غير منتظمة للاحتماء بدول الجوار من ويلات الصراعات والحروب، وهو ما يؤكّد مصداقية تنبؤات (ماركوس) قائد الثورة في جنوب المسكيك، الذي صرّح قبيل نحو عقدين: "إن الحرب العالمية الثالثة ستكون حرباً ضد اللاجئين"، وحسب المفوّضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، "فإن مايقرب من سبعة الاف نازحاً قضوا غرقاً في البحر الأبيض المتوسط خلال عامي 2016م و 2017م، ومع حلول نهاية عام 2018م شُرّد أكثر من 70 مليون إنسان من أوطانهم في جميع أنحاء العالم بسبب الصراع والاضطهاد. ويوجد بين أولئك المشردين ما يقرب من 30 مليون لاجئ، وهو التدفق الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية". وفي ظل تفاقم «أزمة» اللاجئين، شُيّد حتى الآن 14 جداراً بين أوروبا ومحيطها، وصار الجدار الأمريكي مع المسكيك من أولويات الحكومة الأمريكية. وبهذا فقد وصل عدد اللاجئين حول العالم أعلى مستوى له تاريخياً حسب المفوضيّة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. وفي مناسبة "اليوم العالمي للاجئين" الذي يصادف 20 يونيو من كل عام أشار أنطونيو عوتيريش، الأمين العام للامم المتحدة إلى أن "في هذا العام، تُشكّل جائحة كوفيد-19 تهديداً إضافياً للاجئين والمُشرّدين، لقد اضطر ما يقرب من 80 مليون امرأة وطفل ورجل في العالم إلى ترك ديارهم ليصبحوا لاجئين أو مشردين داخلياً".

تاريخياً، يُعتبر منح حق اللجوء للأشخاص الفارين من الاضطهاد في بلدان أجنبية من أقدم السمات المميّزة للحضارة. فقد تمّ العثور على نصوص تدلّ على اللجوء مكتوبة منذ 3,500 سنة، وذلك أثناء حقبة ازدهار أولى الإمبراطوريات الكبرى في الشرق الأوسط مثل البابليين والآشوريين والمصريين القدماء. وبعد أكثر من ثلاثة آلاف سنة، باتت حماية اللاجئين تُشكّل الأولوية للمفوضيّة السامية للأمم المتحدة للاجئين، وتوضح اتفاقية عام 1951م أن اللاجئ هو كل من وُجد "بسبب خوف له ما يبرره من التعرض للاضطهاد بسبب عرقه أو دينه أو جنسيته أو انتمائه إلى فئة اجتماعية معينة أو بسبب آرائه السياسية، خارج البلاد التي يحمل جنسيتها، ولا يستطيع أو لا يرغب في حماية ذلك البلد بسبب هذا الخوف"، لكن ما هو حال لاجئي الحروب بالبلدان العربية، جماعات محرومة يُقاسون من مرارة العيش وضبابية المستقبل؟

حالة الوضع العربي الراهن ليست بحاجة إلى أجهزة مخبرية لتفحصّها، فالحروب الناشبة في اليمن والمُستعرة في سوريا، والمتأججّة في ليبيا، والمضطرمة في شبه الجزيرة العربية والعراق، والصراعات الطائفية في لبنان، والحراكات الشعبيّة المُحتدمة في الأردن ومصر والسودان وتونس والجزائر والمغرب، وتردّي الاحوال السياسية والاقتصادية في كل هذه البلدان ظاهرة للعيان، وهناك غزارة من الدراسات التحليلية والتقارير الإعلامية التي ثابرت لاستقراء وضع الدول العربية الحالي والمستقبلي، ونحن هُنا لا نود الاسترسال في الحديث عن السبب والمُتسببّ في مُختلف الصراعات العربية، بقدر ما نود إلقاء حزمة من الضوء على نماذج أثر الصراعات السياسية (ثورات وحروب) على صحة الإنسان وسلامة البيئة المُحيطة به.  

في تقرير "دراماتيكي" بثّته قناة (العربي) الإخبارية ببرنامجها اليومي (شبابيك)، أوجز حجم المُعاناة الإنسانية التي بات اللبنانيون يُقاسون منها جرّاء النزاعات الطائفية التي تمتدّ لعقود، كان بالنسبة لنا أمرٌ مُلفتٌ للنظر أن نُشاهد إمرأة لبنانية حاصلة على مستوى أكاديمي عالي تضطرّ بالقبول أن تعمل بوظيفة "عاملة نظافة" في شوارع بيروت بأجر يومي يوزاي خمسة دولارات في اليوم. إنها تراكمات لأنواع الفساد السياسي والإداري والمالي المُستشري في مفاصل الدولة اللبنانية التي خلّفت محن ليس لدى المواطن اللبناني خيار اخر إلا أن يتحمّل تبعاتها. هذه المحن التي تتوالى على لبنان منذ عقود يبدو أنها مُتواصلة ولن تتوقف، كان اخرها ما حدث في الرابع من شهر أغسطس الماضي، عندما دوى إنفجار ضخم هزّ العاصمة بيروت ناتج عن وجود "مواد نيترات الأمونيوم (TNT )  مُخزنّة في العنبر رقم 12 بالمرفأ البحري. وحتى قبل هذا الانفجار الكارثي الذي تسبّب في "وفاة ما يقرب من مائتين شخص وجرح نحو ستة الاف"، كان لُبنان يُعاني من أزمة إقتصادية حادّة "ارتفع فيها مستوى الفقر إلى 40%"، ومع انخفاض قيمة الليرة اللبنانية، لم يكن بمقدور أبناء لبنان على توفير مُستلزمات الحياة اليومية من غذاء ومأوى صحي، وتعليم، أدّى كل ذلك إلى ارتفاع مُعدّل الهجرة، فقد وصل عدد المُهاجرين إلى "72 ألف لبناني كل عام"، وهو ما لم يعرفه لبنان في تاريخه حسب المراقبين الديموغرافيين. وبعيداً عن الماسي الانسانية والبيئية التي يعيشها لبنان لأسباب تواصل أمد الحروب والنزاعات الطائفية فهي تعاني منذ سنوات قضية إغراق مدينة بيروت بالاف الأطنان من النفايات، فخلال السنوات الخمس الأخيرة تكدّست النفايات في شوارع المدينة الجميلة وملأت المخلفات وشوّهت طرقاتها وأزقتها، وهو دليل فشل الحكومة اللبنانية الذريع في إدارة أزمة النفايات، بسبب اعتمادها على حلول آنية وغياب خطة مُستدامة.  

وتوضّح التقارير أن أزمات لبنان لا تقتصر على النزاعات الداخلية بل تُشير إلى أن الكيان الصهيوني (إسرائيل) خلال حربه على لبنان في عام 2006م  بعدما قصفت طائراته الحربية محطة كهرباء بجنوب لبنان أدى إلى "تسرّب أكثر من 15 ألف طن من زيت الوقود وانتشارها بطول 150 كم قبالة السواحل اللبنانية والسورية"، وفي حربه على قطاع غزة في عام 2009م ألقى الكيان الصهيوني "ما يعادل ثلاثة ملايين كغم من المُتفجرات تحتوي على مادة الفسفور الأبيض على مساحة صغيرة لا تزيد على 400 كم مربع".

ليس بعيداً عن لبنان الجريح، فقد كُتب للعراق الألم ولشعبه الشقاء، فمنذ استقلاله وخلاصه من براثن الانتداب البريطاني في عام 1932م لم تتوقف مُؤامرات الاغتيالات وتوالت عليه الحروب والنزاعات، كان من أهم محطاتها الحرب العراقية الإيرانية في عقد الثمانينات، ثم دخول العراق في أزمة فُجائية مع جارته الكويت، ثم معاناة العراق من أزمة "النفط مُقابل الغذاء" في عقد التسعينات، لتتواصل المأساة باحتلال القوات الأمريكية العراق في بداية الألفية الثانية، وتُستنزف جميع ثرواته (بشرية وبيئية). وتشير المصادر إلى أن أكبر كارثة نفط بالتاريخ حدثت عندما غزا العراق الكويت عام 1990م، حيث حُرقت "أكثر من 613 من ابار النفط وانفجرت 67 بئراً أخرى، وقدّرت كمية النفط المحترق بما يعادل 8 مليون برميل ومائة مليون متر مكعب من الغاز". وبهذا فقد تسرب النفط إلى الأرض والبحر وتلوّث الهواء بالدخان، وتأثّرت مختلف أنواع الحياة الفطرية حيث نُفقت الأسماك والسلاحف والدلافين وتدهورت بيئات الشعاب المرجانية والأهوار وغادرت الطيور أعشاشها وتلفت النباتات والأشجار. وتُلفت التقارير البيئية النظر إلى أن "أكثر من 70 في المئة من الأراضي الزراعية تعرضّت للتلوث والتدمير، وتراجعت أعداد النخيل من 30 مليون نخلة إلى نحو عشرة ملايين، وتذكر الدراسات البيئية أن تأثيرات حرق الابار النفطية شمل دول المنطقة برمّتها، ويُقال أنها "وصلت إلى جبال الهمالايا". من جانبه، فقد وصف الدكتور إسماعيل مدني (الأكاديمي والكاتب البحريني) الانعكاسات السلبية الناجمة عن حرب الخليج  الأولى والثانية قائلاً: "أن الدخان الأسود قد حوّل نهار الخليج إلى ليل مُعتم والامطار الدُهنيّة السوداء كانت من الظواهر الغريبة التي لم يرها سكان البحرين من قبل".  

وفي دراسة بحثيّة، قدّرت مُنظمة الأمم المتحدة أنه في الحرب على العراق عام 2003م استخدامت الولايات المتحدة وبريطانيا "ما يتراوح بين 1100 – 2200 طن من اليورانيوم المنضّب"، وهو ما أدى إلى انتشار "غبار إشعاعي" لوّث التربة والهواء، وشكّل تهديداً إشعاعياً خطيراً على صحة الإنسان والبيئة". وتشير التقارير إلى أن "هناك أكثر من 70 ألف عراقي قُتلوا نتيجة الألغام الأرضية منذ ثمانينيات القرن الماضي، ووصل عدد الأيتام إلى مايزيد عن أربعة ملايين، وعدد الأرامل إلى ثمانية ملايين، وهناك أكثر من 3.6 ملايين مُعاق، بالإضافة إلى وجود 90 منطقة ملوثة إشعاعياً في جنوب العراق بسبب اليورانيوم المنضّب الذي استخدمته قوات التحالف إبّان غزو العراق"، فيما ارتفعت نسبة الوفيات بسبب الإصابة بالسرطان الناتج عن استخدام اليورانيوم المنضب إلى 75 في المئة بعد العام 2003". 

وفي سوريا، وصل عدد قتلى النزاع المسلح إلى أكثر من 250 ألف شخص، كما أصيب أكثر من مليون شخص، وشُرّد نصف السكان، وحسب منظمة الصحة العالمية فقد تدهورت خدمات الرعاية الصحية وقضى كثير من الأطفال نحبهم لاسباب سوء التغذية والحرق العشوائي لمخميات اللاجئين وهناك من هم ينامون في العراء دون مأكل ولا مأوى، وبسبب الحرب انخفض الانتاج الزراعي والحيواني وتقلّصت مساحات الاراضي المرويّة إلى 49 % وتعرضت إمدادات المياه للقطع واتبعت في الحرب سياسات التعطيش  وأصبح 70% من السكان لا يستطيعون الحصول على مياه صالحة للشرب، وهو ما اضطر البعض لشرب مياه الابار الملوثة، مما زاد من حدة امراض الاصابة بالاتهاب الكبدي الوبائي، واسهمت حركة الاليات العسكرية الثقيلة في تعرية التربة والقضاء على الغطاء النباتي. وتشير الدراسة إلى أن أم الغابات السورية تتعرض للحرق حيث قضت على أكثر من 50% من مساحات الغابات بسبب القصف العسكري والاحتطاب الجائر لاستخدامات الغابات للتدفئة وصناعة الفحم، كما تتعرض الحيوانات البرية مثل المها العربي والغزلان والطيور إلى الصيد الجائير أيضا.   

وإذا ما وليّنا بوجهنا نحو جنوب شبه الجزيرة العربية، تترائى لنا مأساة الإنسان والبيئة في أرجاء اليمن السعيد، وتجاوزاً لحالة عجز قطاع الخدمات عن التخلص من النفايات بالشكل السليم، وإضطرارهم إلى حرقها في الحارات وفي ساحات المُجمعات السكنية والتجارية، فهناك ما هو أدهي وأمّر يتمثل في  تسجيلها مُستويات غير مسبوقة في حالات الفقر والبَطالة والأُمِّية، وسوء التغذية. والتقارير الصادرة عن برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة يُحذّر من أن اليمن أصبح على "شفير المجاعة"، حسث وصل عدد الأشخاص الذين إنعدام الأمن الغذائي إلى ما يقرب من خمسة ملايين شخص،  ومستوى الفقر "قفَز من 42 % إلى 54.5 % ، وبسبب النزاع فقَد أكثرُ من 1.8 مليون طفلٍ في سن الدراسة إمكانَ الوصول إلى المدرسة؛ وقد تم إغلاق ما يقرب من أربعة الاف مدرسة، وأدّى هذا عدم تمكّن ما يقرب من ثلاثة ملايين طفل يمني (47& من تلامذة المدرسة) من تلقّي تعليمهم،  وفي تقرير أخباري بثته قناة ال (بي بي سي الناطقة بالعربية) في  أكتوبر الماضي، شاهدتُ شخصياً حجم المُعاناة التي يعاني منها أهالي مدينة تعز حيث يدرسون أبنائهم في مدارس مُتهالكة تهدّمت أجزاء كثيرة من مرافقها بسبب شدة القصف الجوي، تفتقد إلى الكهرباء والمياه الصالحة للشرب، ويتطّوع أهالي المدينة ليس بتدريس أبنائهم بل مساعدتهم في شراء حاجياتهم المدرسية ريثما توفر لهم ذلك. ووفقاً للتقارير الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونسيف) يُعاني نحو مليوني طفل من سوء التغذية، وتُعاني المرأة اليمنية من مخاطر التحرّش والعنف الجنسي، ووفقاً لمفوّضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين فقد "فرّ أكثر من 190 ألف يمني من اليمن في بداية الصراع في مارس 2015، لجأ بعضهم إلى منطقة القرن الأفريقي بسبب قربها الجغرافي"، وهذه الأرقام المُقلقة هي بمثابة نداء "إستغاثة عاجلة" للعالم.  

وفي الشأن البيئي، وحسب التقارير الدولية فإن الحرب الدائرة باليمن ساهمت في تهديد عناصر الحياة الفطرية، ففي ظل ضعف الرقابة البيئية والانفلات الأمني، الذي نتج عنه تراخ في تطبيق التشريعات البيئية، تزايدت عمليات  الصيد الجائر للحيوانات البريّة المُهدّدة بالانقراض، من بينها النمور والفهود والغزلان والوعول، وبسبب الوضع الاقتصادي المُزري الذي يعيشه اليمنيون جرّ الكثير منهم إلى المُتاجرة بالحيوانات والطيور والنباتات البريّة.

وفي شمال أفريقيا، عاشت الجزائر خلال عقد التسعينات أزمة النزاعات المُسلّحة عُرفت ب"العشرية السوداء"، لا يُمكننا نسيان أحداثها الدموية حيث "راح ضحيتها 200 ألف جزائري، واعتقل فيها العشرات ممن زُجّ بهم في المُعتقلات، وقد وصفتهم منظمة حقوقية أهلية جزائرية ب"بالموتى الأحياء" لتعرضّهم لأمراض مُزمنة من بينها فقدان الذاكرة، وقد وصلت نسبة البطالة بين الشباب الجزائري 90%، والجزائر صاحبة أكبر احتياطي للمياه الجوفية تُعاني اليوم من العطش، وهو ما دفع بالجزائرين إلى الدعوة لحراك 2019م الذي لم يُحقّق جميع الأهداف المرجوة منه. 

وبحجم الاثار التي ترتّبت على الصراع المُسلح في الجزائر لم تُبدي حكومات جاراتها في شمال افريقيا أي اهتمام، فأشعلت تونس الخضراء "شمعة" ما أطلق عليه "الربيع العربي"، بعدما أضرم الشاب التونسي "أبو عزيزي" في 17 من ديسمبرم 2010م النار بجسده بسبب سوء الأوضاع الإقتصادية، ليتحوّل الشاب "أبو عزيز" إلى رمز لثورات الشعوب العربية ضدّ الظلم والفساد. ثم تتابعت ارتدادات هذه الثورة لتصل إلى جارتها ليبيا، للمطالبة بتنحّي العقيد القذافي، مثلما تنحّى قبله الرئيس المصري السابق حسني مبارك، مُؤكدين حق الشعب الليبي في التعبير عن رأيه بمظاهرات سلميّة دون أي مضايقات أو تهديدات من قبل النظام. وبعد أن أُسدل الستار في 20 أكتوبر 2011 على نظام القذافي بإعلان إغتياله، بعد حكم دام 42 عاماً، عاشت ليبيا فوضى سياسية واقتصادية واجتماعية، ووفقا لتقارير الأمم المتحدة يحتاج ما يقدر بحوالي "مليونين ليبي إلى مساعدةٍ إنسانيةٍ عاجلة لتلبية احتياجات رعايتِهم الصحِّيةِ والغذائيةالأساسية"، بسبب اكتظاظ العديد من المستشفيات والتدنّي الكبير في قدراتها، ومواجهتها نقصًا حادًّا في الأدوية واللَّقّاحات والمُعِدّات الطِّبِّية، ناهيك عن الانقطاع المتواصل للتيار الكهربائي، وتذكر المصادر بأنه "يوجد 250 الف مُهاجر ليبي يُواجهون الاعتقالات التعسفية والعمل القسري والاعتداءات الجنسية والاستغلال والابتزاز، وقد شهد عام 2015م غرق 2000 مهاجر في البحر الأبيض المتوسط خلال سعيهم البائس لعبور البحر وصولا إلى سواحل القارة الأوروبية".  

قُصارى القول: في زماننا العربي الراهن تتشابه مُعاناتنا الإنسانية والبيئية، زماننا مُكتنزٌ بالفواجع والمصائب والجوائح والمحن، وهذه ليست إلا إطلالة عابرة على بعض من أوضاعنا الراهنة التي تُبرهن على الحقائق المُرّة التي نعيشها ونحاول التعايش معها، ففي المشرق العربي وفي مغربه ما تزال حكومات دولنا تتنازع فيما بينها، ورُقع التنازع تتمدّد، والأخبار التي تتصدّر المشهد السياسي الحالي من إقليم تيغراي في أثيوبيا وإقليم الصحراء المغربية الذي يشهد توتراً بين المغرب وجبهة البوليساريو خير دليل على صدق ما نقول، وحكومات دولنا تعيش أسوأ أحوالها الاقتصادية بعدما تحوّلت من دول "فائض" إلى دول "عجز وديون"، والإنسان العربي بات هو "كبش الفداء" الذي يتحمّل تبعات هذا العجز ليعيش بين جماعات (ليس مجتمعات) مُشتّته ومُتنابذة تتفشى فيما بينها البطالة، وتتنامى مُعدّلات الأميّة، وتتزايد موجات الهجرات والتشّرد، وتفتقد بيئتنا العربية لعناصرها الأحيائية، وفي ظل هذا الوضع المتأزّم، تنزوي جامعة الدول العربية بنفسها وتحبس أنفاسها، وتبقى، كما ألفناها منذ نشأتها، في وضع المُتفرّج، تُصيغ بيانات التنديد، وتحوّل قاعاتها المنقوش على حيطانها ايات من الذكر الحكيم تدعو على الوحدة والاعتصام بحبل الله، تحولها إلى "أوكار" للمُؤامرات وحياكة قصص جديدة للتامر بين ساسة الأنظمة العربية، وتُبارك سياسات "التطبيع" مع العدو الصهيوني التي كانت على مدى عقود تُبرز كعلاقات "غرامية سريّة"، يحدث كل ذلك الان علناً على مرأى ومسمع الصغير والكبير دون استحياء أو تحسّب، عوضاً عن الخروج برؤية جامعة وموّحدة توقف نزيف "الجُرح العربي" الذي طال مداه وأمده من الخليج إلى المُحيط.

نحن نعلم من أن الكثير من زُملاء المهنة قد أطلقوا العنان لأقلامهم وأصواتهم، فزّج بهم في مُعتقلات وزنازين "المُستبدّ"، ومنهم من لم يبخلوا بالتضحية بحياتهم واثروا الاستشهاد وموارات أجسادهم وأرواحهم تُراب ساحات القتال، ألا أنه حريٌ بنا من أن نوضّح رُؤيتنا كمتابعين مُتخصصين في مجال الصحافة البيئية بأن  ضعف (أو رُبما غياب) التغطية الصحفية للاثار الإنسانية والبيئية للحروب نرجعها لعدة أسباب: يكمن أولها في غياب الصحافة المتخصصة، ويتمثل ثانيها في "فتور" الحسّ البيئي لدى القائمين على تحرير النشرات الاخبارية، نضف إلى ذلك بُعداً اخر يتمثّل في تضييق هامش الحريات الاعلامية ومنع الصحافة من الولوج إلى مواقع الصراع والحصول على بيانات دقيقة تُعينهم على صياغة المحتوى الخبري الشفّاف لهده النزاعات، علاوة على تمكّن بعض الأنظمة من تحويل أجهزتها الإعلامية إلى أدوات "قمع" لم يعد لطغيانها حد ولا مدى. والسؤال المُلحّ هنا: هل لدى حكومات دولنا بصيص أمل للخروج من هذا السقوط الإعلامي المُخزي المُهين والتيهان السياسي الذي يفضي إلى فوضى إنسانية وبيئية لم يسبق لها مثيل؟ ألم يخطر على بال أحدهم بما سُئل به أحد حكماء بني أميّة: كيف سقطت دولتكم؟ قال: "أمور صغار سلمناها لكبار، وأمور كبار سلمناها لصغار، فضعنا بين إفراط وتفريط، قرّبنا العدو طمعاً في كسب ودّه، وبعدنا الصديق ضامنين ولاءه، فنالنا غدر الأول وخسرنا ولاء الثاني"، ومتى سيعمل قادتنا بما نصح به المُتنبي: "من يهن يسهل الهوان عليه" وينظرون إلى حكمته بشيء من الجديّة والتعقّل؟.

هذا هو الحال الذي الت إليه ثرواتنا العربية (بشرية وبيئية)، وهذا هو وضع إعلامنا "المُدبّر"، ويبقى ما طرحناه في هذه المدونة "غيضٌ من فيض"، فكؤوس حكومات بُلداننا العربية ما تزال مُمتلئة بالعجائب والغرائب والفتن والمحن والرزايا، وما خفي أعظم، والأيام القادمة حبلى بالكثير والكثير من المُؤامرات والقصص الأخبارية...!.  

خور الملح موطن الذهب الأبيض

  تدوين: يحيى السلماني مع بداية فصل الصيف التي تمتد من مايو حتى شهر أكتوبر تنشط وتيرة انتاج الملح بالطريقة التقليدية في ولاية قريات. وبنهاية...