تدوين: يحيى السلماني
مع بداية فصل الصيف التي تمتد من مايو حتى شهر أكتوبر تنشط وتيرة انتاج الملح بالطريقة التقليدية في ولاية قريات. وبنهاية هذا الشهر تتراجع كميات الإنتاج بسبب انخفاض درجات الحرارة التي تتسبّب في تقليل مستوى تبخّر المياه.
يعتمد مُنتجي الملح الطبيعي بهذه الولاية على استخدام أدوات تقليدية
توارثوها أب عن جد. في هذا الموقع الفسيح الذي يُطلق عليه "خور الملح" تمرّ عملية
الإنتاج بعدّة مراحل: يتم في البداية احتجاز المياه المالحة في أحواض صُممّت
بطريقة يسمح لها أن تختزن كميات من المياه لفترات طويلة. وبعد حوالي أسبوع يتم جمع
الملح المترسّب في أرضية الأحواض في منطقة تسمى محليا "البند"، ثم تبدأ عملية
تجفيفه وتنقيته، بعدها تأتي مرحلة تخزينه في أكياس قماشية أو بلاستيكية، ثم تسويقه
في الأسواق المحلية.
قديماً، اعتمد مُنتجي الملح بهذه الولاية على الحيوانات مثل الحمير والإبل في نقل
هذا المنتج إلى الأسواق، وكانت تُصدّر الكميات الزائدة إلى الهند وشرق أفريقيا
بواسطة السفن التي كانت ترسو بالقرب من برج (الصيرة) الواقع بساحل ولاية قريات. أما
اليوم تُستخدم سيارات الدفع الرباعي والشاحنات لنقل أكياس الملح لتوزيعها على الأسوق
المحلية بمختلف ولايات السلطنة.
تُشير بعض التقارير الإعلامية إلى أن الكميات التقديرية المنتجه من هذا الموقع خلال فترة الصيف تبلغ حوالي 400 طن. هذه الكمية تفي بطبيعة الحال باحتياجات السوق المحلي الذي يمكنه تسوّق 30 كيلوجرام من
الملح بريالين فقط. وهذا سعر رخيص جدا إذا ما
قورن بأسعار الملح المُنتج في الأسواق الإقليمية والعالمية. لذلك، من يواضبون العمل في هذا الحقل سيواصلون مُطالباتهم جهات الاختصاص لتحديث وتوسعة هذا الموقع الاستثنائي لإنشاء مصنع حديث يعمل بتقنيات جديدة تتوافق مع اليات إنتاج
الملح المُستخدمة حسب المواصفات الدولية. فالموقع مُؤهل لإنتاج كميات كبيرة من الملح وبجودة عالية يمكن إستثمارها في
تصدير هذا المنتج المحلي للخارج.
وفقاً للمراجع العُمانية، لا
يقتصر استخدام الملح الطبيعي في ولاية قريات وغيرها من الولايات على تحضير الوجبات التقليدية بل يُستخدم أيضا لتغذية
المواشي، حيث "يُخلط الملح الطبيعي مع الأعلاف باعتباره أحد خيارات التغذية الصحيّة
التي يُوصي بها مُربّو المواشي بالسلطنة".
بجانب
فوائده الاقتصادية والصحيّة، يُعتبر خور الملح اليوم أحد المعالم السياحية الفريدة بالسلطنة. خلال تجربتي المتواضعة في قطاع السياحة أدركت بأن هذا الموقع يأتي في قمة أولويات قائمة المواقع السياحية التي يقصدها عدد لا بأس به من السواح. خلال الزيارة، جميع السواح - خصوصاً أولئك القادمون من أوروبا وأستراليا وأمريكا الشمالية كانوا يقفون والدهشة تُحيط بهم أثناء مُشاهدتهم عشرات من أحواض من "البلورات البيضاء" مُقسمّة على شكل
مُربعات هندسية، ثم لا يتوانون عن الإقتراب من تلال الملح الأبيض التي تنتظر مرحلتي التعبئة والتخزين.
لم تأت دهشة أولئك السواح من فراغ أو محض صدفه، بل جاءت بعد إطلاعهم مُسبقاً على الأهمية التاريخية لهذا الموقع. فخور
الملح الذي يقع على بعد حوالي 5 كم في الشريط الساحلي بقرية دغمر (جنوب ولاية
قريات) يُصنّف كأحد أهم المعالم البيئية والأثرية بالولاية، والدراسات المُوثقة لهذا الموقع تُشير
إلى "أنه قد تم اكتشاف بعض النفايات القوقعية والبشرية تعود إلى حقبة الألف الثالث
قبل الميلاد".
بحكم عملي كمرشد سياحي، تعدّدت زيارتي لهذا الموقع الإستثنائي، وفي كل زيارة كُنت أتسائل ما المانع من البحث عن المساق التاريخي والاجتماعي لهذه الثروة الطبيعية. من يتعمّق في البحث يجد أن للملح اعتباراته الخاصة في الحضارات القديمة، وفقا للمراجع التاريخية، فقد عبّرت مختلف الحضارات القديمة في العالم عن الأهمية الاقتصادية والعقائدية والإجتماعية لهذا المُنتج، حيث استخدمته الشعوب منذ القدم في إعداد أنواع من المواد الغذائية، ناهيك عن أنه- أي الملح- يُعتبر أحد أقدم الصناعات المعدنية وله قيمة اجتماعية في الحضارات الرومانية والصينية والهندية والمصرية.
في
عام 1912 نشر إيرنست جونز Ernest Jones مقالا ناقش فيه "الهوس البشري" بالملح، حيث اعتبر
أن هذه الظاهرة تُخفي ورائها هاجساً غير منطقي يحمل دلالات مُتعددة في العقل الباطن، ودعما لهذه النظرية ذكر جونز Jones العادة الغريبة التي مارسها سكان الحبشة حيث
كانوا "يُقدّمون لضيوفهم قطعة من الملح الحجري ثم يقومون بلعقها كاملة".
من جانبه يشير الصحفي والمؤلف الأمريكي مارك كورلانسكي Mark Kurlansky في كتابه "الملح تاريخ عالمي" إلى أن الملح أُستثمر في العصور القديمة حاملاً معه مدلولاً يتخطّى خصائصه الطبيعية، فقد
أسماه الشاعر الإغريقي هوميروس "المادة الإلهية"، فيما وصفه الفيلسوف إفلاطون ب"المادة التي تحظى
بمعزّة خاصة لدى الألهة". وكان المصريون القدامى والرومان "ينثرون الملح على الأضاحي والقرابين"، كما استعمله الفراعنة في "التحنيط". نعرف جميعاً أن مُعتقدات الفراعنة تتركّز على فكرة "الخلود"، وقد جاء اصطناع
المومياءات في إطار اعتقادهم بضرورة "حفظ الجسد" في انتظار حياة أخرى جديدة، وانطلاقاً من هذه المعتقدات فإن "قدرة الملح على حفظ الجسم أعطته أهمية أسطورية".
المُتتبّع لتاريخ صناعة الملح يجد أن أهمية الملح توسعّت لتولج من المعابد والكنائس فتؤثّر على خصوصية وطبيعة الحياة في قصور
الملوك. يذكر الصحافي الأمريكي مارك كورلانسكي Mark Kurlansky أن أحد القصص الفرنسية تحكي عن أميرة عبّرت عن شعورها تجاه أبيها قائلة له:
"أحبك كما أحب الملح"، هذا التشبيه أغضب أبيها فأمر بنفيها من المملكة،
ولم يدرك الملك قيمة الملح إلا بعد أن حُرم منه لاحقا فأدرك بعد ذلك عمق حُب إبنته
له.
من يسبر أروقة ثقافة المجتمعات يجد أن للملح قوة غريبة في طرد الأرواح الشريرة. يميل كثير من شعوب الأرض إلى الاعتقاد أن "الأرواح الشريرة" لا تتحمل الملح الذي يستطيع طردها، ويصعب التفكير في أي مادة أخرى نالت أي نصيب مواز من الأهمية في فكر الإنسان ومعيشته بأكثر مما فعل الملح. ففي المسرح الياباني التقليدي، كما ورد في كتاب مارك كورلانسكي Mark Kurlansky كان "الملح يُذّر على خشبة المسرح قبل كل عرض لحماية الممثلين من الأرواح الشريرة والحسد"، وفي أفريقيا وبعض أنحاء اسيا ما تزال بعض قبائلهم تعتقد أن الملح "طارد للأرواح الشريرة" ولديه قوة خارقة ل"إبطال السحر".
أهمية الملح لم تتوقف عند حدود الاعتقادات الدينية والممارسات الاجتماعية، تذكر
المصادر التاريخية أن طريق الملح Via Solaria أول الطرق
الرومانية الكبيرة التي نُقل من خلالها الملح إلى روما، وكان الرومان في أمسّ الحاجة إلى الملح من "أجل الجنود والجياد"، وقد "كان الجنود يتقاضون أجرهم حفنة من الملح". من هنا جاءت
كلمة Salary والعبارة Worth his salt أو Earning
his salt بمعنى
"إستحق أجره". ولأهميته الاقتصادية شيّد الرومان "الملاحات" بالقرب من الشواطئ خلال حملاتهم التوسعيّة (الإستعمارية) لأنهم قد أدركوا بأن "الملح عنصر ضروري في بناء
الإمبراطورية".
لقد شهد ساحل المتوسط على امتداده حركة نشطه للملاحات التي نشط في إنشائها فيما بعد الفينيقيون والبيزنطيون والمسلمين، وقد كان الملح الذي يُنتج في الإسكندرية يحظى بتقدير كبير خصوصا النوع المعروف باسم "زهرة الملح" Fleur de sel في العصور الوسطى أيضاً صُممت أوعية وأطباق الموائد الملكية على شكل سفينة شراعية وزُينّت بالملح، وكا ن ذلك رمزا "لسفينة الدولة". وباعتبار أن الملح يرمز إلى الصحة وحفظ الطعام، فإن صحة الحاكم انذك يُمثّل استقرار الأمة.
المراجع التاريخية تقول: خلال
حقبة الاستعمار البريطاني كانت القبائل الهندية تُقدّم الملح كضمان لولائها
للبريطانيين، ففي غوجارات Gujarat الساحل الغربي في الهند كان الملح يُنتج في أرض
سبخة تصل مساحتها إلى 9 الاف ميل مربع تُعرف باسم Rann of Kutch ، كان هناك أيضا منطقة Orissa في الساحل
الشرقي كمانت موقع مثالي لانتاج الملح الطبيعي. يطلق الهنود على حقول الملح Khalaris وكان الملح
الذي يتم انتاجه عبر التبخير الطبيعي تحت أشعة الشمس يُسمى Kartach .
وحسب ما جاء في كتاب "الملح تاريخ عالمي" لمؤلفه مارك كورلانسكي Mark Kurlansky يذكر التاريخ أن "أول حالات فرض ضرائب على الملح، كانت في الصين بواسطة الإمبراطور الأسطوري «هاونجدي» قبل 2700 عام قبل الميلاد"، ولم تكن الصين هي الدولة الوحيدة التي فعلت ذلك؛ فقد "فرضت كُل من مراكز العالم القديم مثل أثينا وروما ومن بعدها فرنسا، الضرائب على الملح. فيما سجل التاريخ الصيني احتكار المسحوق الأبيض، منذ القرن السابع قبل الميلاد، عندما أراد أباطرة الصين حماية السلعة الثمينة من الكساد التجاري، وكان الملح يمثل نسبة تتراوح بين 80 إلى 90 % من الدخل القومي للإمبراطورية الصينية في القرن الخامس قبل الميلاد، الأمر الذي مكّن الدولة، من فرض ضرائب على الملح، والتحكم في تجارته مع الدول الأخرى".
منذ الاف السنين تعدّدت استخدامات الملح وتنامت أهميته حتى يومنا هذا. تُشير مُؤشرات قطاع الصناعة الحديثة إلى أن "الملح يُستخدم في أكثر
من 14 ألف استخدام بما في ذلك تصنيع المستحضرات الصيدلانية، تذويب طبقات الجليد،
تسميد الحقول الزراعية، صناعة الصابون، صباغة الأقمشة" والقائمة طويلة جداً.
بعد هذا العرض، يُمكن القول: أن الملح استطاع أن يحتفظ بأهميته الغذائية والاقتصادية والاجتماعية والعقائدية حتى يومنا هذا. فنحن ما نزال نستخدمه كعنصر أساسي لا غنى عنه في معظم موائدنا، وهناك من لا يزال يحرس على مُمارسة طقوسه الاجتماعية والدينية بحضور بلّورات الملح البيضاء طلباً للبركة واستعاذة من الشر والحسد.
الملح، وإن حُمّل معان مُتفاوتة ومتباينة كلٌ حسب ثقافته ومُعتقده، سيبقى حاملاً لرمزيّته الأدبية الراسخة في وجداننا العربي دلالات احترام حسن العشرة وإشارات إجلال لذوي القُربى وعلامات توقير لوشائج الصداقة، والمثل الدارج "بيننا عيش وملح" ما نزالُ نُردّده ليُترجم بوضوح لا
لبس فيه مدى تعظيمنا لصفاء صداقاتنا وحُسن المعشر.
من هُنا، وبعيداً عن إنشغالنا ما يحمله الملح من رموز ودلالات، نضمّ صوتنا مع إخواننا الذين ما يزالون - رغم الصعوبات - يُرابطون على مُمارسة حرفة إنتاج هذه الثروة الطبيعية بولاية قريات ويُطالبون جهات الاختصاص أن تدعم جهودهم بتأهيل الموقع بما يتوافق مع المعايير الدولية، وتوفير أولويات أسس الحماية لهذا الموقع الاستثنائي من السيول والفيضانات والزحف الرملي، ونلتمُس إمدادهم بأدوات حديثه تُسهّل عليهم طرق الإنتاج وتختصر أوقات التعبئة والتخزين وتُعينهم في عمليتي الترويج والتسويق، وبهكذا دعم ستتعاظم الفائدة للجميع، وسيظل "خور الملح" أحد مواطن "الذهب الأبيض" بالسلطنة، والتوفيق بيد الله!