السبت، 30 مايو 2020

ظُفار بين مُنخفضين: مداري وإعلامي


تدوين: يحيى السلماني
مع قدوم صيف كل عام، تحظى محافظة ظفار بهبوب الرياح الموسمية الماطرة، فترتوي سهولها، وتمتلئ ابارها وتتدفق عيونها وتنساب المياه في أفلاجها، ثم تتزين جبالها وتلالها ومُنحدراتها بمناظر الشلالات المائية التي تُسلب لبّ الناظر، ومع قدوم كل صيف، نتوقع أن تكون الجهات المختصة قد انتهت "فعليّاً" من إنجاز جلّ مشاريعها التي تُسهم في حل  إشكاليات كثيرة تُعاني منها ولايات هذه المحافظة التي تتمتع بطبيعتها الطوبوغرافية الفريدة ومناخاتها  الإستثنائية. من بين هذه الإشكالات، على سبيل المثال لا الحصر، تصريف مياه الأمطار في مدينة صلالة، واستثمار كميات المياه الوافرة من خلال إنشاء سدود (تغذية وحماية) إضافية، وتعزيز البنى التحتية للهندسة المدنية الخاصة بمسالك الطرق الرئيسية والفرعية.  ألا أنه يبدو لنا أننا سنظل نعايش حكايات ذات الوضع الذي اعتدناه لعقود خلت، والمنخفض المداري الذي تعرضت له المحافظة مؤخرا يُدلل على صدق هذا التوقع.  
ساعتين فقط من هطول الأمطار على محافظة ظفار، كانت كفيلة بكشف النقاب عن ذات العيوب التي أضحت، كعادتها، حديث الساعة في مجالس بيوتنا ومجالس منصاتنا الإجتماعية، بعد ساعتين فقط، غُمرت مدينة صلالة ومختلف ولايات المحافظة بأحيائها السكنية والتجارية بالمياه، وعانت الطرق الرئيسية من التشققات والانهيارات رغم حداثتها، فتعطّلت انسيابية المرور، ولم تُفلح "أساطيل" من صهاريج "تناكر"  المياه من شفطها وإعادة الوضع على ما كان عليه، وهذه شهادة جيدة لا بد من أن تُروى للكشف عن نتائج "إختبار كفاءة" ما تم انجازه من مشاريع خدمية خلال المرحلة المنصرمة.
إن تكرّر مشاهدتنا لهكذا مشاهد ناتجة بطبيعة الحال عن "أخطاء" فنية فادحة و"سوء" تخطيط حضري مبني على أُسس علمية حديثة، إضافة إلى "تدنّي" مستوى الرقابة الرسمية، كلها باتت تُشكّل "علامة استفهام" كبيرة، ولغزًا مُحيرًا. فعلى مدى عقود، لم يتم وضع بدائل مناسبة رغم كل "الأغلفة المالية" التي يتم رصدها سنويّاً  لإعادة النظر على هكذا أوضاع بعين الجدية والإعتبار.
من جانب اخر، إقتصر دور الإعلام بمختلف أدواته (مقروءة ومسموعه ومرئية) على نقل المشاهد الطبيعية لتدفق مياه الأدودية  مع التركيز على إنحدار المياه على شكل شلالات مائية، وظلّ يُخصص جل مساحات تغطيته وكأنه "يُروّج" لموسم سياحي أكثر خصباً، متغافلاً أولا: الاثار الجانية لتدفق هذه المياه على الأحياء السكنية والتجارية والمنشات الصحية في ظل غياب رؤية "فنّية" واضحة تتدارك هذه الإشكاليات، وثانياً، لم تُكلّف إدارات وسائل الإعلام المحلية مُحرري نشراتها الإخبارية ومُعديّ برامجها (إذاعية وتلفزيونية) من التحضير لإعداد برامج مُتخصصة تعتمد فيه على سياسة التحليل واستقصاء الأسباب الكامنة وراء ضُعف البُنى التحتية، واقتصرت تغطيتها الإعلامية (التقليدية) على بث مشاهد مُتكررة لحالة المُنخفض المداري، وهي تغطية (مُنخفضة) باتت تُصيب مُتابعيها بالتململ في ظل وجود بدائل حديثة يعتمد عليها المتابع للحالة المدارية للحصول على محتوى ذات المضمون وبقوالب فنيّة قد تتفوق في بعض الأحيان على تلك المنقولة عبر وسائل الإعلام الرسمية...! نتسائل: إلى متى سيستمر الحال على هذا الوضع المُخجل؟ نتمنى للأمور أن تتغير للأفضل، وأن يصبح "المطر صديق الفقراء" كما تمنت الكاتبة "شهرزاد"، مع كل التقدير لجهود الجميع...!        
     


الخميس، 14 مايو 2020

العمالة المُغتربة: القادمون من "جنّة الأرض"؟!


تدوين: يحيى السلماني
نتذّمر من من؟ ونُلقي عتبنا على من؟ ونحن من فتح الأبواب، ثم سلّم مفاتيحها لجماعات "مُغتربة" لبّت دعوتنا، فجاءت لاهثة مُتكبّدة عناء السفر لالاف الاميال، فارّة من مهانات الفقر وذلّ الحاجة والعوز، مُتطلّعة إلى حياة أفضل تُعينها على تحسين وضعها المعيشي، وساعية إلى اكتساب خبرات عملية جديدة في الحياة، لنجدها اليوم تعيش هانئة البال في بيوتنا، وتتكدّس في زقاق حاراتنا، وتجوبُ ساحات أسواقنا، وتتصرّف بأريحّية تامة في تسويق غلّة مُنتجات مزارعنا، وتُتاجر بخيرات بحارنا، وتتحكّم في تسعيرة بضاعات دكاكيننا، ومن واتته منهم فُرص الإستثمار الصغرى قبل الكبرى، ملأ بها جيوب قمصانه ثم اكتنزت حساباته البنكية، جمع ما جمعه من ثروة هائلة، فأصبح يترأس فروع مؤسساتنا، وبعد سنوات، بل عقود من تغلغلها في عمق مجتمعنا، تصبح هذه "العمالة المُغتربة" هي من يتحكّم اليوم، دون رقابة رصينة، في شتى مفاصل حياتنا بإرادتنا.
أمام هذا المشهد، ظلّ العُمانيون بعيدين كُل البُعد، يتطلّع غالبيتهم إلى وظيفة حكومية، أفرزت مع مرور الأيام والسنون ما أطلق عليه (فرد هاليدي) المختص بشؤون الخليج "بطالة الرفاهية"، التي يحصل العُماني من خلالها على مُرتبّات تبدو عالية دون الحاجة إلى عمل حقيقي، نتج عنه الاتكالية المُطلقة على "العامل المُغترب" وتدّني الانتاجية وعدم المبالاة، وبهذا نجد أن العُمانيون أنفسهم لم يُدركوا طوال عقود أهمّية النصيحة التي أسدى بها سيّدنا عمر بن الخطّاب حين قال: "تعلّموا المهنة، فإنه يوشك أن يحتاج أحدكم إلى مهنته".   
لكن "المُضحك المُبكي" وبعد أن تشبّعنا من "تدليل أنفسنا"، وتنصّلنا من كامل مسؤولياتنا في تطوير مهاراتنا وتطويع ذواتنا، إنقلبت الأوضاع رأساً على عقب، فمن كان مطلوباً ومحبوباً بالأمس أصبح في وقتنا الحالي منبوذاً غير مرغوب فيه، اليوم وفي الوقت الذي توغّلت هذه العمالة في تفاصيل حياتنا، وكلمّا واجهتنا إشكاليّة، إجتماعية كانت أم إقتصادية، أمنيّة أو حتى صحيّه (ما حدث في عصر كورونا كمثال) ، أصبحنا نتباكى بحرقة، ولا نتوانى أبداً في أن "نصبّ جام غضبنا" على هذه العمالة التي نحن من وفرّ لها شتى سُبل التيسير لتعيش بيننا بعشوائية غاب عنها التخطيط المدروس، عوضاً عن مُراجعة أنفسنا، والإعتراف بأخطاء أرتكبناها على مدى عقود بقصد أو بغير قصد، فأضحت حقيقة الأمر بعامتّه شبيه "بفكاهة" من يستحضر "السحر" ليتخلص من "الأرواح الشريرة".  
 اليوم، لم يعُد خافياً على أحد مدى ارتباط ارتفاع مُعدّل "العمالة المُغتربه" خصوصاً تلك القادمة من شبه القارة الهندية "جنّة الأرض" كما وصفها "أوانجزب" الإمبراطور المغولي في حقب سابقة لما كانت "تملكه أراضيها الشاسعة من ثروات، وما تتمتع به من رخاء ظلّت لقرون مصدر جذب لأفواج التجار القادمين من الشرق والغرب على حد سواء"، باعتبار إنها تُمثّل النسبة الأكبر بين تجمعات العمالة المهاجرة ليس على مستوى السلطنة فحسب، بل في جميع دول الخليج العربي، تؤثر على فضاءاتنا الإجتماعية والاقتصادية، وربّما قد يطال أثر هذا النموّ المتسارع لهذه العمالة لاحقا ليلامس الجانب السياسي (البرلماني)في ظل وجود نقابات عمّالية وقانونية (حقوقية)، ولنا في دول أخرى من العالم العديد من الأمثلة.
حسب الاحصائيات الرسمية للتعداد الوطني، فقد ارتفعت نسبة "العمالة المغتربة" لتبلغ في "شهر مارس من عام 2020م  45 % أي ما يُعادل (تقريباً) نصف  إجمالي السكان"، وتؤكد الإحصائيات أن "البنغاليون والهنود والباكستانيون يمثلّون السواد الأعظم من هذه العمالة بالسلطنة بنسبة 85%". وبتفاصيل أدقّ، "يبلغ عدد البنغاليين 618.54 ألفاً، ويمثلون 36.99% من إجمالي العاملين الوافدين، يليهم الهنود وعددهم 600.27 ألف عامل، ويمثلون 35.89%، ثم الباكستانيون 203.17 آلاف، ويمثلون 12.15% من إجمالي العاملين الوافدين"، وهذه النسب مُجتمعة تُشكّل تحوّلاً ديموغرافيا يُنذر في رأينا ورأي الكثير من متابعي قضية العمالة الاسيوية بالخطر على المدى المتوسط والبعيد.
أولى هذه الأخطار يكمُن في ثقل كفّة الوزن الديموغرافي "للعمالة المُغتربة" بالسلطنة، وبهذا ألقت هذه التشكيلة الديموغرافية التي تمثّل 85% بثقلها لتؤثّر على عمق القيّم والموروث الإجتماعي والأخلاقي، ولا يبدو الأمر غريباً في أن يلمس المواطن والمُقيم العربي "التشويه اللغوي"، إن صح لنا التعبير بذلك، في التخاطب الذي أفرزته "فُجائية" المُتغير الديموغرافي بالسلطنة، وشعوره، وإن جاء متأخراً، بأنه يتوجب إعادة جدولة الكثير من الأمور التي تتصل بمجريات حياتنا اليومية.
فالبرغم من أن اللغة، أيّ لغة، تُعدّ من أهم "مظاهر السيادة" في أيّ بلد كان، ألا أننا نجد أنفسنا اليوم قد تنازلنا بمحض إرادتنا عن "إرثنا اللغوي" عوضاً عن نشره وتطويره. لم يأت هذا "التشويه اللغوي" محض صدفة، بعدما أضحى أطفالنا يستسقون أبجديّات نطقهم من لسان لا صلة له بلغة الضاد، ففي ظل غياب "الأبوين" عن فلذات أكبادهم لتسع ساعات يومياً على أقل تقدير، تبقى "عاملة المنزل" خلال هذه الفترة هي من تُدير دفّة شؤون البيت من تنظيف وطبخ وعناية "همجية" بالأطفال الذين تنموا، بكل أسف، مدارك عقولهم قبل أطراف أجسادهم على حضن ثقافتها و"لكنة" لسانها، فيصبحون مُتعلقّين بها أيمّا تعلّق. ثم نحن "أولياء الأمور" ممن تقع على عاتقنا مسؤوليات أخلاقيّة وأدبية نحو هذه اللغة التي اصطفاها ربّنا لتُنشر بها رسالة ديننا الحنيف، فقد أضطرننا استسهال التحدّث بلغة عربية "ملتوية ومشوهّه" فرضها علينا "المُغترب" الذي لم نوفّر له فرص حقيقية ليتعلّم لغتنا العربية الأم، وصرفنا النظر عن الإصرار على التعامل مع هذا "المغترب" أو ذاك بلهجاتنا المحليّة على أقل تقدير، وبهذا، أصبحنا وكأنّنا "أقليّة" في بلادنا، تنساق لما يفرضه عليها ثقل "المُغترب" بثقافته الدخيلة علينا، في ذات السياق، لم تعر مؤسساتنا الرسمية (إجتماعية وتربوية)  أدنى إهتمام لواقع "التشويه اللغوي" المرير، فعندما نتحدث عن "عمالة مُغتربة" تعيش بيننا لأكثر من أربعة قرون وما تزال عاجزة عن تركيب جملة عربية مفيدة، فهذا لا يعني إلا أنّنا خضعنا، مُسيّرين أو مُخيّرين، لتأثيراتها، ولم يعد يهمنّا ما تلاقيه ثقافة مجتمعنا ولغتنا الأم من تهميش...!        
من هموم الإشكالات التي أفرزتها "العمالة المُغتربة" أيضاً سيطرتها على مختلف الأنشطة التجارية، وأصبح من البديهي تناقل عبارة "وراء كل نشاط تجاري هندي"، في إشارة صريحة تُبيّن أنه مهما وُسمت لوحات محلاتنا التجارية بأسماء تبدو في الظاهر عُمانية، ألا أن من يقف وراء غالبية أنشطة هذه المحلات أيادي ورؤوس "مُغتربة"، ومن تواتيه الفرصة لزيارة مناطقنا التجارية والصناعية، ومختلف مؤسساتنا الإنتاجية والخدمية يلفت نظره "التشويه" الذي تتسبب فيه "العمالة المُغتربة" للهيكل الاقتصادي لمؤسساتنا الوطنية.
هذا التشويه يتمثّل في ارتفاع نسبة العمالة القادمة من شبه القارة الهندية (جنّة الأرض) بوجه خاص في قطاعات الصحة العامة والتعليم والصحافة والإعلام والزراعة والأسماك وتجارة المقاولات والحدادة والسباكة وميكانيكا السيارات، والمطاعم، والمخابز، ومحلات غسيل وكي الملابس، والحلاقة، والحرف اليدوية، والخياطة، والعقارات، وبقيّة الأنشطة والخدمات العامة والقائمة مفتوحة...!
كان، وما يزال، هدف هذه العمالة "الربح بأي ثمن وبأي وسيلة"، وبهذا فقد بلغ حجم التحويلات الماليه الضخمه، حسب تقديرات الجهات المختصة (الرسمية) بالسلطنة خلال عام 2017م بنحو 9 مليارات دولار سنوياً، هذا ناهيك عن التحويلات المالية بطرق غير مشروعة والتي تتم بواسطة متواطئين ووساطة "السوق السوداء" بغية الحصول على سعر صرف أعلى، أو اتباع طرق احتيالية أخرى عن طريق "التهريب عبر المسافرين"، وبالرغم من أن عملية التحويلات المالية "حق مكتسب" لكل باحث عن الرزق، ألا أن القيمة المالية لهذه الحوالة لا يُمكن تجاهلها وتمريرها مرور الكرام، لأنها تُشكّل بكل بساطة نوعاً من أنواع الاستنزاف المادي للاقتصاد الوطني.    
في ظل هذا الوضع الذي يتكأ فيه إقتصاد بلادنا على "العمالة المُغتربة"، تهاوت فُرص حصول العُمانيين على فُرص الاستثمار  الحقيقية في مثل هذه الأنشطة خدمية كانت أم تجارية، وما عزّز هذا "التهاوي" التهاون والتسويف في تطبيق سياسات إحلال جادّة محل "العمالة المُغتربة"، مما أدى إلى إرتفاع نسب البطاله بشكل ملحوظ، وفي ظل صعوبة الحصول على "عمل ثابت"، إضطرّت مخرجات التعليم، الدبلوم العام والعالي، إلى أن تسلك طرقاً مختلفة تُعينها على تأمين مصروف مستلزماتها اليومية عوضاً عن الجلوس "مكتوفة الأيدي" بدون "شغل ولا مشغله"، وهي بهذا تُحاول، قدر الإمكان، أن تنأى بنفسها عن إضاعة الوقت وإفساده.
وبما أن "البطالة أم الرذائل" كما يقول المثل الفرنسي، اقتنع العديد من هذه المخرجات للإنخراط "الإضطراري" في ممارسة أعمال بسيطة جداً (غير مهنية) من بينها: المشاركة في أنشطة الباعة المتجولين، إضافة إلى الإنخراط، بدون الحصول على تراخيص رسمية، في أعمال السمسرة العقارية، والإرشاد السياحي والنقل وغيرها من الأعمال التي لا تتوافق البتة مع مستوى ونوعية مؤهلاتهم الأكاديمية، وهو ما يتنافى في ذات الوقت جملة وتفصيلاً مع  ما تنص عليه مواد قانون تنظيم العمل العماني.  
من هنا يبدو أن وضع البطالة الذي تعاني منه شريحة واسعة من فئة الشباب بالسلطنة منذ عقود أصبح مُحرجاً، والتقرير الصادر عن صندوق النقد الدولي في شهر أغسطس من عام 2018م يشير إلى "أن سلطنة عمان هي الأعلى في نسبة البطالة في المنطقة بين الشباب"، كما يبّين تقرير اخر صادر عن البنك الدولي تحت عنوان: "عُمان المرصد الإقتصادي 2018م" أن الشاغل الاجتماعي الرئيسي بالنسبة للسلطنة هو "نقص الوظائف"، ووفقاً لأحدث تقديرات منظمة العمل الدولية، "بلغ معدل البطالة بالسلطنة 17% في 2017، فيما يبلغ معدل البطالة بين الشباب قرابة 49% وهو تحدٍ ملّح في سلطنة عمان حيث يمثّل من تقل أعمارهم عن 25 عاما أكثر من 40% من جملة السكان". هذه البيانات تؤكدّها التقارير المنشورة بصحافتنا المحلية، فأحدث البيانات تقّدر نسبة الباحثين عن عمل، وفقا للتقرير الصحفي المنشور بجريدة عمان في عام 2018م،  بما يقرب من 45 ألفاً (علماً بأنه لا توجد إحصائية رسمية دقيقة والأرقام الحقيقية قد تفوق الأحصائيات المتوفره).  
أمام هذا الوضع المحرج، الذي ألقى بثقله، وما زال، على كاهل إقتصادنا الوطني، كان لا بدّ من التحرك السريع للتقليل من حجم تفاقمه والحد من خطورة نتائجه على المجتمع برمتّه، وبهذا سعت حكومة السلطنة مشكورة إلى إيجاد الية حقيقية للتعامل مع أزمة تنامي معدلات "العمالة المُغتربة" والتخلص من إشكاليات البطالة في ان معاً، ففي شهر نوفمبر من عام 2001م وبناءً على المرسوم السلطاني رقم (108/2001) أنشأت وزارة للقوى العاملة، تتلخص مهامها في "تنفيذ السياسة العامة للقوى العاملة بما يتفق والأهداف الاقتصادية والاجتماعية للدولة"، وبالرغم من أن هذه الوزارة (التي كانت سابقا دائرة صغيرة تحمل مسمى "دائرة العمل والعمال" مقرّها حي روي التابع لولاية مطرح) يوكل إليها مهام "تنظيم سوق العمل وقطاع التدريب المهني"،  لم تُفلح هذه الوزارة، في رأي الكثيرين، على مدى عقدين من وضع إستراتيجية حقيقية لتوفير فُرص التدريب المهني، وربطها باحتياجات سوق العمل لتتمكن من خلالها في تطبيق سياسات "إحلال العمالة الوطنية مكان المغتربة". فمنذ تأسيسها، ورغم المُبادرات التي بولغ في الترويج الإعلامي لها، لم نلمس البتة أية فروقات تُذكر في هذا المضمار، ولنا في المناطق الصناعية بالوادي الكبير، والعامرات، والمعبيلة، وغلا أمثلة نموذجية تؤكّد مصداقية هذا الطرح. عملياً، توفّر هذه المناطق المئات من الوظائف المهنية خصوصا تلك المتعلقة بميكانيا السيارات، وخدمات الكهرباء والنجارة والسباكة والمقاولات، والتي تستحوذ على تشغيلها وإدارتها عمالة بنجالية وهندية وباكستانية، كما لم نشهد أية فروقات "تعمينية" في مجالات الصحة العامة والتمريض، بشكل خاص، في مختلف مؤسساتنا الصحية، فالمضمّدة الاسيوية (هندية، سيرلانكية، فلبينية) ما تزال تستحوذ هي الأخرى على قائمة الممرضات بهذه المؤسسات، ولا يتسع المجال هنا لإعطاء أمثلة مماثلة.
 أما على المستوى الأمني، فلنا في هذا شواهد كثيرة ومتكررة، كان اخرها عمليات القتل المُتعمّد التي حدثت بولايتي بديّه ومصيرة بمحافظة الشرقية، هذا ناهيك عن عمليات الإغتصاب، وتهريب المخدرات، والسطو والسرقة والتزوير والنهب والاحتيالات البنكية، ولنا في هذا العديد من الأمثلة،  وقد حازت في الفترة الاخيرة قضية الاحتيال والنصب البنكي التي نفذّها الملياردير الهندي "ب.ر شيتي" اهتماماً واسعاً، أو ربمّا، كانت الأكثر تداولاً في المنصّات الإجتماعية بالسلطنة وبقية دول المنطقة،  وإن لم تكن هذه العملية التي تناولها العمانيون بحالة من السخط والغضب هي الأولى من نوعها، فهي لن تكون الأخيرة إذا ما أدركنا أن "العمالة المُغتربة" هي من تُدير رؤوس أموال شركات ومؤسسات تجارية أصبح لها صيتها ووزنها الإقتصادي بالسلطنة.      
في مبادرة سابقة، وجهّت حكومة السلطنة في شهر يناير من عام 2018م  "بتوفير 25 ألف وظيفة جديدة في القطاع الخاص، كما أوقفت إصدار تأشيرات العمل "للعمالة المُغتربة" في مهن معينة"، وللتغلّب على الصعوبات التي أفرزتها البطالة وغلاء المعيشة أعلنت الحكومة عن "إجراءات تخفيفية" لدعم الفئات السكانية الضعيفة، حيث وفرّت 100 مليون ريال عماني لدعم الأسر المعيشية المحتاجة، بالإضافة إلى تطبيق نظام جديد "لدعم الوقود"، لتحصل الأسر التي "يقل دخلها عن 600 ريال عماني على 200 لتراً من البنزين (العادي) شهرياً بسعر مدعَّم"، ألا أن وقع هذه التسهيلات والمبادرات لم تعالج أوجاع البطالة المتفشيّة لدى الشباب.    
وبعد فشل الوزارة الذريع في حلحلة إشكالية البطالة، أُنشأ في العام المنصرم 2019م المركز الوطني للتشغيل بموجب المرسوم السلطاني رقم  (22/2019)، وهذا المركز الذي يتمّتع بالشخصية الإعتبارية والإستقلال المالي والإداري، ويتبع مجلس الوزراء، يهدف إلى "توجيه وإعداد وتشغيل الباحثين عن عمل واستقرارهم وإنشاء قاعدة بيانات عن القوى العاملة في السلطنة، وتعزيز الشراكة مع مختلف الجهات التعليمية والتدريبية والتشغيلية لدعم تشغيل القوى العاملة الوطنية"، ألا أن هذا المركز لم يُقدّم النتائج المرجوّة منه حتى تدوين هذه السطور.  
وفي محاولة جديدة، تناقلت وسائل التواصل الإجتماعي مؤخراً نسخة من المنشور المالي (رقم 14 / 2020) الصادر عن الوزير المسؤول عن الشؤون المالية، يدعو في مضمونه جهات الإختصاص ضرورة الاستفادة من "طاقات القوى الوطنية، وتنمية قدراتهم والاستفادة منهم في مسيرة التنمية الشاملة في مختلف القطاعات"، وأوصى المنشور كافة الشركات الحكومية "ضرورة التسريع في إحلال العُمانيين محل الوافدين على أن يتم تقديم الموقف التنفيذي ضمن تقديرات الموازنات لعام 2021م في شهر يوليو القادم". يفصلنا عن تقديم "المواقف التنفيذية للشركات الحكومية" حسب هذا المنشور حوالي شهرين من الان، وحتى ذلك الوقت، سنبقى، كما اعتدنا سابقاً، مُترقّبين لتنفيذ مثل هذه التوجيهات بجديّة وموضوعية بعيدة عن ممارسات المُحاباة والمفاضلة.
لنا هنا أن نتخيّل: ماذا لو أن مئات الألوف من العمالة الاسيوية المُغتربة اعتصمت عن العمل في مختلف هذه القطاعات الحيوية لمدة يوم واحد فقط، من الذي سيعتني بأطفالنا، ومن سيحضّر وجباتنا، ومن سيخيط ويحدّد (يكوي) ملابسنا، ومن سيحرث أراضينا ويروي مزارعنا، ومن سيشرف على صيانة وبناء بيوتنا ومدارسنا ومساجدنا، ومن سيرصف لنا شوارعنا، ومن سيُزيّن واجهات منتزهات شواطئنا، ، ولمن نوكل صيانة مركباتنا (سياراتنا) ومختلف أجهزتنا الكهربائية والإلكترونية، ومن سيتكفل بتوفير متطلباتنا اليومية من منتجات غذائية وغيرها...؟! إذن بمن سنستجير، ولمن سنلجأ؟ أليس من الأجدى أن نتأمّل الوضع المُخزي والمخجل الذي سنصبح عليه بشيء من التعقّل والحكمة؟ ألم يحن الوقت كي نتأمّل برويّة وتمهّل فيما قد تؤول إليه ظروف حياتنا بعد أن أصبحنا "رهينة" لخدمات "العامل المُغترب" الذي بات يتحكم في أنفاس وشرايين حياتنا اليومية؟ 
 عليه، لا نتردّد في تكرار ما أكدّنا عليه في مقالات صحفية نشرت قُبيل أكثر من عشر سنوات، تطرقنا في مضمونها إلى أن "العمالة المُغتربة" لا تمتاز بأيّ تفوق "مهاري أو مهني"، فغالبيّة هذه العمالة جاءت فارغه تفتقر لأدنى المهارات والمؤهلات العلمية (المهنية)، وفي ظل ضعف بل في أحيان أخرى غياب الرقابة الرسميّة اتبعّت هذه العمالة المثل القائل: "تعلّم الحلاقة على رؤوس المجانين"، فاكتسبوا خبراتهم من خلال المشاهدات والممارسات العملية اليومية للمهنة، ثُم زجّوا بأجسادهم وأنفسهم وبعشوائية في ساحات الأسواق العمانية باعتبارهم أصحاب مهنه وخبره. في المُقابل، نجد أن العُماني كان وما يزال لديه الإستعداد للعمل في مختلف الظروف (إجتماعية/ مُناخية)، ولديه مهارات ومؤهلات قد تفوق تلك التي يتحلى بها "العامل المُغترب" في مختلف المجالات ريثما توافرت له فرص التأهيل الحقيقة، وهنا لا نودّ الخوض في الإنجازات التي حقّقها العُمانيون قديماً وحديثاً، فهم من أبدعوا في مجالات الهندسة المعمارية، والهندسة الزراعية، والطب، والتعليم والشواهد على ذلك ما تزال حاضرة حتى يومنا هذا، وبكل أسى وأسف، لم يُلاقي هذا الطرح أيّ اهتمام رسمي، فاذان من توكل إليهم مُهمة هذا الشأن "مرقومة" الأولى من طين والثانية من طحين.  
نحن هنا لا نود التشهير أوالتقليل من شأن هذه العمالة التي نكنّ لها كل التقدير والإحترام، ونعترف علناً بأنها هي من ساهمت أيّما إسهام في مختلف أوجه التنمية بالسلطنة، ونعي جيداً أن أهمية وجودها بيننا ليس وليد الأمس، بل يرجع لعدة قرون، فحسب ما تشير إليه مذكرات صامئيل مايلز (الوكيل السياسي البريطاني في مسقط (1872 – 1886م)) أن "أول مستوطنة للهنود في عُمان تعود إلى القرن الخامس عشر، وكان دليله في ذلك على وجود بقايا معبد هندوسي في مدينة قلهات"، وفي يومياته يؤكّد البوكيرك، القائد البرتغالي، "أن قواته استعانت بالهنود لغرض السيطرة التجارية وتسهيل معاملاتها المالية في عمان". كما أن المصادر التاريخية تشير إلى أنه خلال القرن الثامن عشر "ظلت مسقط مركزاً لإقامة الهنود، وأقاموا فيها أحياء سكنية مسوّرة، وأسواقاً شعبية، ثم انتشروا بعد ذلك على طول الساحل العماني"، ولا نودّ الخوض في التفاصيل الخاصة بالامتيازات التجارية والسياسية التي قد حصل عليها الهنود على مدى هذه الحقب التاريخية باعتبارهم كانوا وكلاء أساسيين للشركات التجارية البريطانية، ناهيك عن أنهم عملوا كوكلاء سياسيين خصوصا أثناء قيام الإنجليز بعطلاتهم خلال فصل الصيف نظرا لارتفاع درجة الحرارة في مسقط، وهو ما يدّل على تجذّر عمق العلاقات السياسية والاقتصادية للهنود في عُمان.
الإشكال الكبير في نظرنا يكمُن في غياب أو رُبما ضعف تنفيذ إستراتيجيات "الإحلال" أو سياسات "التعمين" التي تم الإعلان عنها منذ عقود، كما لم يضع منفذوا هذه الإستراتيجيات في الحسبان أهمية التدريب المهني لأكثر من جيل، باعتبار أن معظم المهن التي تستحوذ على تشغيلها وإدارتها "العمالة المُغتربة" تتطلب تأهيلاً مهنياً حال دون توفرّه خلال العقود المنصرمة. أن ما نود التركيز عليه هو أن سياسات الاستفادة من كوادر هذه العمالة لا بد من أن تتغيّر، فبقدر ما نحن متعاطفين ومتعاونين معها مساهمة منّا للتخفيف من الظروف المعيشية التي تُعاني منها في بلدانها، وهو  أمرٌ طبيعي تفرضه علينا واجباتنا الإنسانية والدينية "فالناس للناس وإن لم يشعروا خدمُ"، ولكن أن تبقى ظروف الاستثمار من هذه القوى العاملة المُغتربة بهذه الطريقة الهمجية المُزرية،  يُقابلها حملات تسريح ممنهجة للقوى العاملة الوطنية، وتجاهل شريحة واسعة من الشباب، ثروة الوطن وعماد اقتصاده، فهو أمرٌ لا يمكن أن يتقبّله أيّ منطق تحت أيّ ظرف كان.  
أخيراً وليس اخراً، في ظل غياب وجود رؤية عملية واضحة على مدى عقود، أصبحت أزمة البطالة تمسّ بيت كل عُماني، ولهذا، يبدو الأمر مُلحّ جداً وغير قابل للتأجيل والتسويف للبدء في إنشاء معاهد حديثة وراقية مُتخصصة للتدريب المهني بمختلف محافظات السلطنة، تُعنى بتوفير التدريب العملي التخصصي لمخرجات التعليم العام في مجالات الهندسة المدنية والكهربائية والميكانيكية والزراعية على وجه الخصوص. إضافة إلى عدم إهمال التسريع في تعمين جلّ الوظائف القيادية في مؤسساتنا الوطنية، ولإتمام توجهّنا هذا بنجاح، لا بد من أن نقتدي هذه المرّة بمقولة إدوارد يونج الشهيرة في أن اتباع سياسات "التسويف قد تُسرق من أوقاتنا الكثير".
لقد طال الإنتظار لسنوات بل لعقود، وما تم الإعلان عنه من التوجهّات الرسمية الأخيرة الانفة الذكر، طلّت علينا "بفُسحة من الأمل"، لاقت صدىً واسعاً وترحيباً مُنقطع النظير بين مختلف فئات المُجتمع وشرائحه. ما نتمناه اليوم، هو أن لا تصبح قصص أخبار هذه المُبادرة "كومضة برق" لا تكاد تضيء شمعة أمل جديدة لدى العُماني الباحث عن عمل حتى سرعان ما تنطفي...! ثم ما تفتئ أن تُنسب أخبار مثل هذه المبادرات إلى قصص أقرب ما توصف بأنها حكايات يومية تتناقلها "عواجيز الحارات"، ولله الأمر من قبل ومن بعد...!             

خور الملح موطن الذهب الأبيض

  تدوين: يحيى السلماني مع بداية فصل الصيف التي تمتد من مايو حتى شهر أكتوبر تنشط وتيرة انتاج الملح بالطريقة التقليدية في ولاية قريات. وبنهاية...