الأربعاء، 8 يوليو 2020

شباك "الهيّال" بين رقابتين: ذاتية ورسمية

تدوين: يحيى السلماني
الموقع الاستراتيجي التي تحظى به السلطنة جعل منها أحد الدول التي تمتاز بتعدد ثرواتها البحرية، من بينها وفرة الثروة السمكية التي تشكل أحد الروافد الأساسية للاقتصاد الوطني، فإطلالة السلطنة على ثلاثة بحار هي: بحر العرب و بحر عمان و الخليج العربي زاد من فرص تصنيع وتطوير سفنها وقوارب الصيد التي تربو على 15 ألف سفينة و قارب.  ألا أن التوسع في نشاط الصيد كان له أثره المباشر على البيئة البحرية ومواردها الأحيائية.
قبيل أسبوع واحد فقط، طالعتنا وزارة البيئة والشؤون المناخية بتغريدة تفيد تنظيمها لحملة تنظيف للشعاب المرجانية بولاية خصب بعد تأثرها بشباك الصيد العالقة بها، ثم بعدها بأيام غرّدت وزارة الزراعة والثروة السمكية برسالة شكر موجه إلى أحد المواطنين ممن تطوع بإنقاذ سلحفاة عالقة في شباك الصيد (الهيّال). بالنسبة لنا، لم تحمل كلتا التغريدتين أي خبر مفاجئ، لأننا اعتدنا على هكذا حالات منذ عقود، الأمر الملفت للنظر والمُفرح في ذات الوقت هو الإستجابة المباشرة للجهتين الرسميتين وتفاعلهما مه هاتين الحاثتين. ألا أنه في المقابل، عبّر "أصدقاء البيئة" عن اشمئزازهم وقلقهم الكبير عن ما تؤول إليه وضعية الشعاب المرجانية والموارد البحرية الأخرى، وبهذا السلوك غير المسؤول من الصيادين يتناسون فضل مياهنا البحرية وقيمتها الأحيائية (البيولوجية) بما تزخر به من أسماك متنوعة تسهم في تأمين قوت حياتهم اليومي.  
حملات تنظيف الشعاب المرجانية هي إحدى البرامج البيئية الهامة التي ينظمها المختصون بدائرة صون البيئة البحرية بوزارة البيئة والشؤون المناخية، ويشارك فيها مجموعة كبيرة من المتطوعين من هواة الغوص بالسلطنة، وهذه الحملات تسعى في مجملها جاهدة إلى تحقيق هدفين هامين، يتمثل أول هذه الأهداف في محاولة التخلص من النفايات والمخلفات التي ترمى في عرض البحر وتؤثر بالتالي على بيئات الشعاب المرجانية وبقية الأحياء المائية، أما الهدف الثاني لهذه الحملات فيتمثل في سعي جهات الاختصاص إلى إشراك مختلف القطاعات وتكريس العمل التطوعي، قدر الإمكان، من أجل حماية بيئتنا البحرية التي تزخر بأنواع أحيائية فريدة.   
خلال السنوات المنصرمة، كنت مُشاركاً وشاهداً على العشرات من حملات لتنظيف الشعاب المرجانية، شملت مختلف المناطق البحرية بالسلطنة، وبهذا، وفي الوقت الذي نتطلع فيه إلى رؤية ممارسات بيئية سليمة، ما زالت بعض السلوكيات كالتخلص من المخلفات - بمختلف أصنافها- خصوصا تلك الناتجة عن ممن يمتهنون حرفة صيد الأسماك، تثير حفيظتنا، وبهذا السلوك الذي يمارس ضد التشريعات البيئية الواجب الالتزام بها يخالف جملة وتفصيلا اتجاهات وميول السياسات التشريعية التي أقرت، فالقرار الوزاري رقم (112 / 2000 ) يشير في مادته الخامسة بأنه "لا يجوز القيام بأية أعمال يكون من شأنها الإضرار بالمرجان والأحياء البحرية"، أما المادة السابعة من نفس القرار فتؤكد على أنه "يجب حفظ وتخزين وإصلاح وتجفيف معدات الصيد بعيدا عن أماكن التعشيش..."، وهو ما يشير بشفافية إلى أنه يمكن الاستفادة من مواردنا الطبيعية بطرق مستدامة. 
ما يبعث على الطمأنينة هو أن المختصين بوزارة البيئة والشؤون المناخية يدركون حجم الخطورة التي  تتعرض لها بيئات الشعاب المرجانية بمختلف مناطق السلطنة، فكتاب الشعاب المرجانية الذي أعدته الوزارة بالتعاون مع خبراء في مجال صون الطبيعة، يؤكد أن الشعاب المرجانية تتعرض في الوقت الحاضر بالفعل إلى العديد من التهديدات، ويشير الكتاب بأصابع الاتهام إلى أدوات الصيد المهملة التي تشكل مشكلة كبيرة حيث "تتسبب شباك الصيد و الأقفاص في تدمير عشرات الهكتارات من الشعاب المرجانية، كما تسبب المراسي الملقاة من القوارب أو في شباك الصيد في بعض الأماكن مشكلة أخرى، فهذه المراسي المعدنية الثقيلة تحطم المرجان إلى قطع صغيرة و تتسبب أحيانا في تدمير مساحات كبيرة من المستوطنات المرجانية عندما تنجرف مع التيارات البحرية، و على الرغم من أن الغواصين المحترفين عادة ما يأخذون الحيطة و الحذر، إلا أن الهواة يوازنون أجسادهم في المياه عن طريق لمس المرجان بأيديهم و أقدامهم".
ويؤكد الكتاب، في طبعته الأخيرة، على أنه بالرغم من أن "المشاريع التنموية الجديدة تراعي المستوطنات المرجانية عموما، ألا أنها قد لا تكون مدركة للضرر الناتج عن حمولة الرواسب في المياه أو عن التغيرات في دوران المياه"،   هذا إلى جانب أن الشعاب المرجانية تتأثر في ذات الوقت بالتغييرات المناخية التي تشهدها السلطنة بين وقت وآخر، وباعتبار أن الشعاب المرجانية حساسة جدا تجاه ظاهرة التغيير المناخي، فقد "تأثرت براعم التغذية المتناهية الصغر من التغيرات في درجة الحرارة على مدى الخمسين عاما الماضية (فقدان الطحالب التي تساعدها على التكافل) أكثر من أي وقت مضى، كما أدى ارتفاع درجة حرارة المحيط الهندي في عام 1998م إلى فناء العديد من المستوطنات المرجانية. لحسن الحظ، أدت طبيعة الأرض الجغرافية إلى حماية الشعاب المرجانية في السلطنة من الزوال بسبب الارتفاع الشديد في درجات الحرارة". كما كان لظاهرة الأنواء المناخية التي تعرضت لها السلطنة في عام 2007م و2009 م إلى "تدمير جزء كبير من المستوطنات المرجانية في محافظة مسقط وعلى امتداد محمية جزر الديمانيات الطبيعية، حيث أثرت بعض الظواهر البيولوجية بشكل كبير على الشعاب المرجانية، و قد رأينا التأثير المدمر لسمكة نجم البحر التي تلتهم هكتارات من الشعاب المرجانية عندما تتكاثر بوفرة، و هذا ما حدث في أوائل الألفية الجديدة". 
ما تجدر  الإشارة إليه هنا هو: علينا أولا أن لا نتجاهل الأهمية البيئية و الاقتصادية لغابات الشعاب المرجانية، كما يجب ثانيا أن لا نقلل من فوائدها السياحية والصحية، فالدراسات البيئية تقدر "أن الشعاب المرجانية تأوي أكثر من 25 % من الحيوانات البحرية، وتقدر العوائد المترتبة على السياحة في مناطق الشعاب المرجانية في العالم بأربعة بلايين دولار سنويا،وهي تسهم صحيا في علاج الكثير من الأمراض كالقرح والسرطان وأمراض الأوعية الدموية".
وفي هذا الجانب، وعلى المستوى الوطني، تزخر السلطنة على طول سواحلها التي تمتد لمسافة 3165 كم، بأنواع عديدة من الشعاب المرجانية، فالدراسات المسحية التي قامت بها وزارة البيئة والشؤون المناخية مؤخرا تؤكد: "أن أنواع الشعاب المرجانية التي تم حصرها بالسلطنة تبلغ أكثر من 130 نوعا"، وفي الوقت الذي تحذر فيه مؤسسات البيئة الإقليمية بمخاطر التدهور والانقراض الذي تواجهه "ثلثي بيئة الشعاب المرجانية في منطقة الخليج العربي"، حسب التقديرات الموثقة في تقرير "البيئة العربية، تحديات المستقبل" الصادر عن المنتدى العربي للبيئة والتنمية في عام 2008 م، تواصل السلطنة، بمشاركة مختلف مؤسساتها، جهودها لتفادي الأضرار الطبيعية والبشرية و"الإجهاد البيئي" التي تتعرض له بيئة الشعاب المرجانية.
وتوثيقا لجميع الجهود الوطنية المتصلة بهذا الجانب، أعلنت السلطنة في عام 1996 م عن إستراتيجية وطنية تعنى بهذا الشأن تحت إطار "الخطة الوطنية لإدارة الشعاب المرجانية"، يتابع محاور أهدافها نخبة من الفنيين والمختصين في شؤون البيئة البحرية بالسلطنة، كما أعلنت في نفس العام  وبموجب المرسوم السلطاني السامي رقم (23 / 96 ) عن محمية جزر الديمانيات، وهي أرخبيل يضم تسع جزر قبالة سواحل ولايتي السيب وبركاء، لتميز هذه المحمية بطبيعتها البكر، ومناظرها الخلابة، التي تؤهلها بأن تبقى متحفا للطبيعة، وتوفر الشعاب المرجانية في هذه الجزر مواطن عديدة للإعاشة وأماكن تغذية لمجموعات الأسماك ذات الأهمية التجارية، وتمنح إدارة هذه الجزر الفرصة للجميع، بما فيهم هواة الغوص، للاستمتاع بكنوز البحر ومياهه الدافئة، ولكن وفق اشتراطات بيئية رصينة تضمن لهذه الجزر سلامة مواردها الطبيعية.
أحدث المبادرات في هذا الشأن أيضا تقنين رياضة الغوص التي تستهوي الكثير من المواطنين والمقيمين والسواح، حيث أصدرت الوزارة لائحة تنظيم الغوص في البيئة البحرية خارج نطاق المحميات الطبيعية  في السلطنة بموجب القرار الوزاري رقم (40 / 2009 ) وهي تحظر الغوص في البيئة البحرية خارج نطاق المحميات الطبيعية إلا بعد الحصول على تصريح معتمد من الوزارة ، وتلزم اللائحة الغواصين التقيد بالضوابط والاشتراطات الواردة بالتصريح التي تركز على ممارسة الغوص بعيدا عن المواقع الخاصة بالصيادين الحرفيين ومعدات صيدهم، وتدعوهم إلى الوعي بعدم الإضرار بالشعاب المرجانية وضرورة المحافظة عليها،  بالإضافة إلى انه يحظر استخدام البنادق المائية أثناء ممارسة نشاط الغوص ، وضرورة تخزين أسطوانات الغوص بشكل محكم على متن القارب، إضافة إلى العديد من البنود التي تتضمنها هذه اللائحة والتي تشمل أهمية تزويد الغواصً بمعدات الإسعافات الأولية ومعدات الأمن والسلامة ويجب وضع أرقام هواتف الطوارئ على القوارب المستخدمة للغوص في مكان بارز يمكن لضمان سلامة ممارسي هذه الهواية. و بالإضافة إلى ذلك، قامت وزارة البيئة و الشؤون المناخية، بالتعاون مع شركة تنمية نفط عمان و جامعة السلطان قابوس، بتنفيذ عدة مشاريع تجريبية لتركيب المرجان الاصطناعي على مدى الأعوام الماضية و ذلك للحصول على الخبرة و الخلفية الكافية لإمكانية استخدام هذه التقنية مستقبلا في مجال إعادة تأهيل بيئات الشعاب المرجانية. كما إن الوزارة متواصلة في إنزال المراسي الاصطناعية لاستخدامها في رسو القوارب الخاصة بالصيادين وشركات وأندية الغوص للحد من التأثير على الشعاب المرجانية عند إنزال المراسي الخاصة بالقوارب. لكن، يبقى أن نتسائل: هل هذه الجهود والتشريعات كافية للحد من حجم الآثار التي تتولد من جراء الأنشطة البشرية؟ أم يتوجب علينا مراجعة السياسات التي تنتهج حاليا؟
ما سبق، يؤكد لنا أن بحار السلطنة زاخرة بعشرات الأنواع من الشعاب المرجانية، وأحياء بحرية أخرى لا تقل أهمية، كالسلاحف البحرية ومئات الأصناف من الأسماك، وعشرات من الشعاب المرجانية، والجهات الرسمية بادرت في حمايتها منذ وقت مبكر، ألا أنه يتضح لنا جليا أن الأنشطة البشرية، والتي من أهمها ممارسة هواية أو حرفة صيد الأسماك، تلعب دورا  كبيراً في إلحاق الضرر بالشعاب المرجانية ببيئاتنا البحرية،  كما أن مرتادي  البحر يتسببون في  رمي فضلات أطعمة ومخلفات معدنية وبلاستيكية تلتصق بالمرجان فتهمش أطرافه وتؤدي إلى تشويه منظره الطبيعي، كما يسهم رمي مثل هذه المخلفات في خنق أو ربما في أحوال أخرى هلاك الكائنات البحرية التي تنعم بها البيئات البحرية.
وفي ظل غياب الرقابة الذاتية وضعف الرقابة الرسمية، وبإدراكنا لهذا الخطر الذي يداهم عناصر بيئتنا البحرية، يحق لنا هنا تكرار التساؤل: في ظل هذا الوضع غير المرضي، ما هي الخطوات التي تقوم بها الوزارة للحد من مثل هذه السلوكيات غير المسؤولة؟ وكيف تتعامل الوزارة المعنية، عمليا، مع مثل هذه الانتهاكات البيئية؟ نرتئي أهمية دراسة وتقييم استراتيجياتنا البيئية (تشريعية وتوعوية) لمواجهة مثل هذه التحديات التي تمارس بشكل يومي، دون الاستهانة أو التقليل من آثار ذلك على مستقبل بقاء أحيائنا البحرية على قيد الحياة، ونوصي بضرورة التشاور الجاد على أهمية متابعة الدراسات الميدانية (المسحية) لمراقبة نمو الشعاب المرجانية في مختلف مناطق السلطنة التي تحظى بمثل هذه الثروات الوطنية النادرة، كما يجب إلحاق مراقبي الحياة الفطرية بدورات تدريبية تعينهم على إنجاز مهامهم الموكلة إليهم على أكمل وجه، وأن يكونوا على مقدرة بإجراء الرصد المطلوب بهدف توفير المعلومات اللازمة لاستثمار الموارد الطبيعية بطريقة مستدامة، وعلينا أن لا نستثقل أو نتردد في ضخ موارد مالية داعمة تسهم أولا في تعزيز الكادر البشري وتوفر تاليا الآليات الحديثة التي قد تضمن تحقيق الأهداف المرسومة مسبقا وهنا لا ننوي إزعاج ممن يمتهنون ويستهوون حرفة الصيد والتشديد عليهم في ممارسة مهنتهم وهوايتهم، بل نناشدهم مواصلة استثمار مواردنا البحرية شريطة التقيد بالأنظمة والقوانين التي تنص عليها اللوائح التشريعية في هذا المجال. فتدمير الشعاب المرجانية لا يعني فقط حرمان الكثير من الأحياء البحرية التي تستوطنها من العيش بأمان في موائلها الطبيعية، بل يعني أيضا فقدان الكثير من الأنواع السمكية التي تحظى بأهمية اقتصادية وإيكولوجية إلى الأبد، وبهذا نرتئي أهمية تدارك الأمر والتصدي له قدر الإمكان وفي أسرع وقت، وشباك "الهيّال" عادة ما ترمى في عرض البحر قبيل غروب الشمس، وبهذا  يسهل رصد غير الملتزمين بشروط الصيد المعتمدة خصوصاً في المواقع الواقعة في إطار المحميات الطبيعية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خور الملح موطن الذهب الأبيض

  تدوين: يحيى السلماني مع بداية فصل الصيف التي تمتد من مايو حتى شهر أكتوبر تنشط وتيرة انتاج الملح بالطريقة التقليدية في ولاية قريات. وبنهاية...