تدوين:
يحيى السلماني
تُؤكّد
أحدث الدراسات الأمريكية على أن انجذاب الإنسان إلى الحيوان "يُعتبر ميلاً
فطريًا مُلازمًا لطبيعة بني البشر"، وتستدّل البحوث الاجتماعية في ذلك على
"أن الأطفال من عمر السنة إلى الثلاث سنوات، يسعدون بالتواصل مع الحيوانات
الأليفة، أكثر من اللّعب بالدّمى التي بحوزتهم، هذا في حال مُنحوا حرّية الاختيار". كما أن البحوث التربوية تُشير إلى أن
تربية الحيوانات ترتبط بالثقافة
الإجتماعيّة، وبهذا، فإن اهتمام الإنسان بالحيوان "يعتمد بالدرجة الأولى على التنشئة
التربوية، والمحيط الإجتماعي، والخبرة الشخصيّة"، وتُدلل الدراسات على
مصداقية ذلك في: "أن التعلّق بالكلاب يعتبر حالة شائعة في الدول الغربية، في
الوقت الذي نجد فيه أن سكّان دول أخرى تعتبرها حيوانات قذرة".
في
المُقابل، تُؤكّد المراجع الأدبية مدى اهتمام الإنسان بهذا الجانب منذ أمد بعيد، ويُعتبر
كتاب (كليلة و دمنة) الذي ترجمه الأديب العربي عبدالله بن المقفع خيُر شاهد على
ذلك، حيث تُروَى قصص هذا الكتاب على ألسنة الحيوانات والطيور، كما يُعدّ كتاب
"الحيوان" للجاحظ أول كتاب جامع يوثّق أحوال العرب وعاداتهم، وتُمثّل قصص
الأمثال ومعلقّات الشعر الجاهلي للنابغة الذبياني والأعشى، وعشرات من الايات
القرانية الكريمة رموزاً لمضامين قصص ودروس عديدة، كما نجد ذات الاهتمام الأدبي
عند اليونان في كتابات "إيسوب الحكيم"، جميها تستخدم الرمز للتعبير عن
الأوضاع السياسية والاجتماعية بأسلوب تغلب عليه السُخرية، وهناك العديد
من الأعمال الأدبية التي صدرت لتحكي مأساة الإنسان الاجتماعية وقضاياه السياسية على
لسان الحيوانات في قالب دراماتيكيّ ساخر لا يتّسع المجال لذكرها هنا.
في
المُجمل، أنّ ما يدعو القارئ للتأمل في محتوى هذه المراجع الأدبية هو: أن جميع الحيوانات
ترمز إلى شخصيات بشرية وهي تحكي قصة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتحثّ في مجملها
على ضرورة التمسّك بالأخلاق وملازمة العادات والمبادئ الحسنة، لكن بعد كل تلك
القراءات، يتوجّس المُطّلع بعض الاسئلة: إلى أي مدى يمكن للحيوانات أن تلعب نفس
الدور الذي يُمارسه الإنسان بشكل مُتقن في مختلف مُجريات الحياة اليومية؟ وهل
الحيوانات هي البديل الأنسب لسرد الأحداث اليومية على لسانها؟ نرى أن رواية
"مزرعة الحيوانات" لكاتبها المتألق الأديب الإنجليزي جورج أورويل قد تُجيب
على جزء كبير من هذه التساؤلات.
هذه
الرواية التي نُشرت في عام 1945 م، عبّر عنها الراوي في إحدى رسائله أن ما جرّه
إلى تأليفها لتواجه" فشل المشاريع
السياسية القمعية، وتُندّد بإرهاب الدولة..."، ففصول الرواية مُرتكزة على سخرية
الطرح الذي يحكي عن كيفية قيام الثورات بطريقة مُقنعة، وهي في ذات الوقت تتكشفُ لقرّاءها في أحداث مُتسلسلة ومُشوّقة
كيف للطُغاة القدرة في أن يتحكّموا في إدارة أذهان رعاياهم وإرادة شعوبهم، باتّباع
أساليب التظليل تارة وممارسة سياسات التهديد تارة أخرى، كُل ذلك تدرجه الرواية في
قالب دراماتيكي ساخر منتهجاً فيه كاتبها أسلوب "الكوميديا السوداء"، طالقاً
العنان فيه للحيوانات لتُعّبر عن معاناتها اليومية بشكل رمزي.
حظيت
الرواية باهتمام كبير من قبل مؤسسات النشر، فتُرجِمَت لأكثر من سبعين لُغة، تحكي في
تفاصيلها عن مجموعة كبيرة من الحيوانات تعيش في مزرعة يمتلكها السيد "جونز"
الذي كان "يقهرها بالسوط، ويبخل عليها في حصص الأكل". عندها قررت
الحيوانات الثورة على الأوضاع البائسة ومُحاربة الأساليب القاهرة التي يمارسها
مالك المزرعة، فاتفقت على التحرر من استبداد الإنسان، من خلال العمل على تسيير
شؤون مزرعتها بالاعتماد على طاقاتها الذاتية، لتتمكّن من تجنب الضرر الذي يمارسه
مالك المزرعة (الإنسان) في حقها بشكل يومي.
وتبعاً
لذلك، في إحدى الليالي المظلمة، اجتمع الخنزير العجوز "ميجر" بحيوانات
المزرعة، فخطب فيهم قائلا: "أيها الرفاق، إننا نعيش حياة الكد، حياة البؤس،
حياة قصيرة جدا، ما أن نأتي إلى العالم، يطعموننا ما نسد به رمقنا فقط، ومن يملك
بيننا القوة يضطّر إلى العمل إلى أن يسلم الروح، وفي اللحظة التي نصبح فيها غير
نافعين، يذبحوننا بوحشيّة مُفرطة، وما أن نمضي سنتنا الأولى على هذه الأرض، حتى
يفتقد كل حيوان منّا معانى الراحة أو السعادة، وعندما يُرهقه الشقاء أو العبودبة،
يصبح فاقداً للحرية، هذه هي الحقيقة البسيطة...".
ثم
يتسائل في خطبته: "هل ينبغي أن نكون جميعا متساوين بقرار من الطبيعة؟ هل تعاني
مزرعتنا من فقر مدقع حتى لا يستطيع أن يمنح للذين يقيمون فيها حياة كريمة؟ ...
لماذا نحن خاملون في وضعية تثير الشفقة؟ الإنسان يسرق نتاج عملنا... الإنسان هو
وحده عدوّنا الحقيقي، لنعمل على إزالته، وهكذا نستأصل جذور الشر.... الإنسان هو
المخلوق الوحيد الذي يستهلك دون أن ينتج، فهو لا يعطي الحليب، ولا يضع البيض، وهو
واهن لدرجة أنه لا يستطيع دفع العربة، وبطيء بحيث لا يستطيع الإمساك بأرنب، ومع
ذلك فهو سيّد كل الحيوانات، فهو يوزّع الأعمال بينهم، لكنه لا يمنحها بالمقابل إلا
قوتاً يومياً هزيلا، ثم يحتفظ بالباقي لنفسه، من يحرث الأرض؟ نحن! من يخصبها؟
روثنا.....!".
كانت
شخصية الخنزير العجوز "ميجر" حاضرة بقوة وهو يلقي خطبته التأنيبية على
الحيوانات بألم، فتمكّن من إقناع الحيوانات بأن مصدر الام حياتها هو الإنسان،
وبهذا حثّهم للعمل بجدّية ليلاً ونهاراً "لإسقاط الجنس البشري"، فاتفقوا
جميعا على القيام بثورة، على أن "تسد بين الحيوانات وحدة مطلقة، وتضامن لا
يشوبه أي تصدّع". وبعد أن أدرك العجوز "ميجر" ولاء جميع الحيوانات،
عندها تنحنح وبدأ ينشد: "الإنسان الظالم مصادر، ستعرف حقولنا الخصب، نحن فقط
من سيطؤها، لقد جاء يوم الخلاص".
أثار
هذا الغناء جذوة حماس بقيّة الحيوانات، وفي إحدى الليالي المظلمة، تمكنّت
الحيوانات بقيادة الخنزير العجوز "ميجر" من طرد الإنسان الأناني
"جونز"، ثم صاغت لنفسها نشيداً عنوانه "حيوانات أنجلترا" تقول
فيه: "حيوانات إنجلترا، حيوانات كل أرض ومناخ، أصغوا إلى أخباري السارة، عن
زمن المستقبل الذهبي...". ولم تكتف الحيوانات بذلك لإثبات هويتها الحيوانية،
فثابرت في الأشهر الثلاثة الأولى إلى تعلم القراءة والكتابة، ثم عمدت إلى صياغة مبادئ
خاصة للحيوانات "Animalism " أوجزتها في سبع وصايا:
الوصية
الأولى: كُل من يسير على قدمين هو عدوّ، الوصية الثانية: كُل من يسير على أربعة
أقدام وكل طائر هو صديق، الوصية الثالثة: يمنع على الحيوانات إرتداء الملابس، الوصية
الرابعة: يُمنع على الحيوانات النوم فوق سرير، الوصية الخامسة: يُمنع على
الحيوانات شرب الخمر، الوصية السادسة: يُمنع على الحيوانات قتل حيوان اخر، أمّا الوصية
السابعة والأخيرة فأوصت بأنّ كُل الحيوانات مُتساوية.
وبعد
أن نجحت "الثورة" في تحقيق ماربها بسرعة عجيبة، أجرت الحيوانات مسحاً دقيقاً لأروقة
المزرعة لتتأكّد من عدم وجود أيّاً من بني البشر بداخلها، ثم أوصدت جميع المنافذ، وهمّت
في التخلص من جميع الأدوات كالسكاكين التي كان يخصي بها الخنازير، ومن السلاسل
التي كانت تُكبّل بها، ومن السياط التي تضرب بها، وصولاً إلى الشرائط الملوّنة
التي كانت تستخدم من قبل مالك المزرعة في تزيين أعراف بعض الجياد بالمزرعة.
ثم
عكفت حيوانات المزرعة على تصميم "علم الثورة"، لونه أخضر يرفع على عمود
في مدخل المزرعة، يتضمن تصميمه "قرن وحافر"، يرمزان إلى قيام الجمهورية
القادمة التي سيعلن فيها رسمياً انتصار الحيوانات على الجنس البشري. كما تم تحديد
يوم الأحد يوم عطله، يقدم فيه الإفطار متأخرا ساعة عن الموعد المعتاد، بعد ذلك
تبدأ "مراسيم الحفل" الذي سيتجدّد كل أسبوع، كما أسسّت الحيوانات لنفسها
"مجلس" – يوازي نفس المجالس الاستشارية التي نراها اليوم جزءا من مؤسسات
الدولة الحديثة - تُناقش فيه شؤون المزرعة بشكل ديمقراطي عن طريق "إدلاء
الأصوات" في حالة عدم الاتفاق، كما تم تنظيم جميع الحيوانات في مجموعة من
اللجان: شكل للدواجن لجنة إنتاج البيض، وللأبقار عصبة الذيول النظيفة، وللمتمردين
لجنة إعادة التربية خاصة بالرفاق الأحرار في الطبيعة هدفها تدجين الفئران
والأرانب، وللخرفان حركة الصوف النظيف، ولجان أخرى للوقاية الإجتماعية، إضافة إلى
تخصيص أقسام للقراءة والكتابة والفنون التشكيلية. وينتهي الاجتماع بترديد "النشيد الثوري"، ثم يخصص وقت
للمتعة.
ألا
أن التالف بين الحيوانات الثائرة أصابه الفتور، فلم يستمر طويلا، فبعد انتصارها في
"معركة الحظيرة" التي قادتها ضد الإنسان المُستبدّ، انتقل سلوك الأنانية
الذي كان يمارسه الإنسان إلى بعض من الحيوانات التي تمارس الدور القيادي، ثم سرعان
ما أدخلت بعض التعديلات على الأنظمة التي تنظم حياة المزرعة، حيث بدأت الحيوانات
الكبيرة تقرأ على صغار الحيوانات أوامر العمل الأسبوعية "بلهجة عسكرية"
صارمة، ثم قلّصت حصة طعام الحيوانات إلى مستوى النصف، كما تم الإعلان عن أن
الخنازير ستستيقظ مُتأخرة بساعة عن بقية الحيوانات، ثم بعدما أعلن
"نابليون" إنشاء "علاقات تبادل تجاري" مع بعض من مُلّاك
المزارع المجاورة، عبّرت الحيوانات في إحدى "الاجتماعات الدورية" عن
كابة غامضة مُردّدة: "لا تعامل مع الإنسان إطلاقا، لا نشاط تجاري، لا تعامل
بالمال، أليست هذه هي بعض القرارات التي تم التوصية بها بعد طرد السيد
"جونز" من المزرعة؟، لكنها سرعان ما سكتت خوفا من زمجرة الكلاب
المتوحشة، وبعد أن أدركت الحيوانات أن كل الام نذرت نفسها لأجله ستجني ثماره، كما
ستجنيه الأجيال القادمة، وليس عصابة إنس كسالى تقطف ثمار جهد غيرها.
الرواية
في مجملها صنّفت الحيوانات إلى فريقين: "بوكسَر" هو الحيوان المثابر و"سنوبول"
و"نابلوين" هما الأكثر حنكة وذكاء، في المقابل، هناك حيوانات أخرى تقلّ
حنكتها ويغلب عليها الغباء كالقطة "مولي" التي ترمز "للخيانة"،
فتيبيع كل شيء مهما بلغت قيمته نظير "شهواتها"،
كما أن الحِمار "بنيامين" يظل غالباً ساكتاً، لا ينبس ببنت شفه،
فهو يُدرك ما يدور حوله، لكنه يُفضّل
السكوت، فلا يتدّخل، ويبقى طوال جلساته "مُبحلقاً" بعيونه الواسعتين،
وهي صفات وسلوكيات أراد منها الراوي أن يُسجّل جلّ حكايته بهذه المشاهد التي في
أحيان كثيرة تتوافق مع ما يحدث في مسارات الحياة الاجتماعية والسياسية للبشر.
تلك
التغيرات، ساهمت بشكل مباشر في تعديل المبادئ التي قامت عليها الثورة، فالخنازير
بحكم قوتها وذكائها أصبحت هي من تحكم دون اللجوء إلى مراحل "الاقتراع والتصويت"،
ومن يُحاول الاعتراض من بقيّة الحيوانات الضعيفة فقد يُعرّض حياته للهلاك، وبهذا
استسلمت هذه الحيوانات للواقع المرير، وخضعت بالتالي لنظام الإدارة الجديد
بالمزرعة الذي يتنافى مع الوصايا السبع، إلى أن "إنقلب" الخنزير "نابوليون"
على شريكه "سنوبول" الذي يعاونه في تدبير شؤون المزرعة، بعدما استعان
بمجموعة من الكلاب المتوحّشة التي قام بتدريبها لتعينه في "محاولة الإنقلاب"
التي خطّط لها، فانتصر على غريمه، ثم أصبح "نابوليون" هو الامر الناهي
في كل ما يتعلق ب"الجمهورية الجديدة".
تبع
كل ذلك إلغاء نشيد الثورة "حيوانات أنجلترا"، وقد برّر
"سكويلر" ذلك بلهجة حاسمة: "لن تنشدوا الأغنية أيها الرفاق، كانت "حيوانات
أنجلترا" أغنية الثورة، والثورة نجحت، وإعدام الخونة هذه الظهيرة أوصلها إلى
ذروة نجاحها، لقد هزمنا الأعداء في الخارج كما في الداخل، في "حيوانات
أنجلترا" تم التعبير عن "تطلعاتنا" لإنشاء مجتمع أفضل في المستقبل،
والان وضعنا أسس هذا المجتمع، فأصبح واضحا أنه لم تعد هناك أي ضرورة لهذا
النشيد...". وبهذا، استبدل النشيد بمقاطع غنائية جديدة ألّفها الشاعر الموهوب
"مينيموس"، تقول في مطلعها: "مزرعة
الحيوانات... ليس من طريقي يأتي الأذى".
تزامن
مع هذه التغييرات، تعديلات جذرية في "سياسات الإعدام" لبعض الحيوانات
التي بدت مُمتعضة من التغيير الذي طرأ فجأة، وهو ما يُخالف منطوق الوصيّة السادسة
الذي "يحظر على الحيوانات قتل حيوان اخر". ثم تلا ذلك، أن عدداً من
الحيوانات بدأت تنسج "سياسات التمجيد" للقائد الجديد
"نابليون"، حيث أصبح كل عمل ناجح تقوم به الحيوانات يُنسب مُباشرة إلى "القائد
المُعظّم"، فتردّد بعض الدجاجات الضعاف مثلا: "تحت ظل القيادة المستنيرة
للرفيق نابليون، قائدنا، وضعت خمس بيضات في ستة أيام" ، كما كان يتردّد حديث
يدور بين بين بقرتين تشربان من إحدى البرك المائية بالمزرعة: "الفضل يرجع
لرفيقنا ونبراسنا نابليون، ما أعذب هذا الماء". كما عبّر "مينيموس" في قصيدة مديح تصل
إلى رتبة التقديس عنوانها "الرفيق نابليون" ، هذا مُقتطف من نصّها:
"صديق
اليتيم، نبع السعادة، الروح السامية الهنيئة
يا
واهب الكلأ، نور نظرتك يعكف على الخلق
كشمس
في سمائنا، كينبوع للتأمل
أيها
الرفيق نابليون، أيها الواهب العظيم لكل ما نحب
أيها
الإله الخالق، واهب الصغير، وسيّد كل الفنون ..."
ثم
بدأت صور "نابليون" تنتشر بشكل ملفت للنظر على شكل ملصقات على جدران
المزرعة، وتوالت التغييرات في المزرعة بشكل جذري، "ضاربة عرض الحائط"
مضامين الوصايا السبع. لم يكن وقتها أي شيء يُقلّل من حدّة توتر الحيوانات الضعيفة
إلا ما جاء به الغراب "موسى" الذي ظهر فجأة في يوم قائظ، حط الغراب "العاطل
عن العمل" منذ فترة على جذع شجرة، ورفرف بجناحيه الأسودين، ثم تحدّث بصوت مُهيب
مادّاً منقاره إلى السماء: "هُناك أيّها الرفاق، في الجانب الاخر من الغيمة
السوداء، هُناك يوجد "جبل الحلوى" تلك البلاد السعيدة التي سنرتاح فيها
من الشقاء إلى الأبد..."، في دلالة على أن الغراب كان يشدّ من أزر بقية
الحيوانات على الرحيل.
إستمرّت
حياة الحيوانات بالمزرعة على ذات المنوال، فكبرت الصغار، ووصل بعضها إلى سن
الشيخوخة، ثم جاء جيل جديد من الحيوانات لا يعني له العصيان والثورة سوى تقليد
بائد، تتناقله الألسن، كما تم شراء عدد اخر من الحيوانات التي تم جلبها من مزارع
أخرى بعيدة، ليس لديها أي إلمام بتاريخ المزرعة الدامي التي سيعيشون بها.
واصلت
الحيوانات عملها الدؤوب، لقد أخبرها "سكويلر" أن على الخنازير بذل جهد
كبير كل يوم في أمور غامضة تُدعى "ملفات" و "تقارير" و
"محاضر جلسات" و "مذكرات"، وهي قوائم كبيرة من الورق ينبغي
ملؤها بالكتابة، ثم تُحرق في الفرن". بعد ذلك، ترسّخت خلال السنوات اللاحقة
لبدء الثورة "سياسة عدم السماح بالشكوى أو الإنتقاد"، واختزلت مُجمل
الوصايا السبع في وصية واحدة تقول: "جميع الحيوانات مُتساوية، لكن بعضها أكثر
مساواة من غيرها...". ثم لاحظت الحيوانات أن "الحافر والقرن" الذي
يُزيّن "علم الثورة" قد أزيلا، كما تم تغيير أسم "مزرعة
الحيوانات" ليصبح "مزرعة القصر" الذي كان أسمها الحقيقي قبل نشوء
الثورة على الإنسان. هنا تغير كل شيء، وأصبح من المستحيل التمييز بين الإنسان
والحيوان.
خُلاصة القول: رواية "مزرعة الحيوانات" التي تمتاز بأسلوبها
الشيّق وطرحها المُسلّي تحمل بين ثناياها رسالة فيها من الحكمة ما يكفي لحث البشر
بمختلف مشاربهم بأهمية نشر المساواة، ونبذ الظلم، والتحلّي بمكارم الأخلاق والعدل
والانصاف بين الجميع. هذه الرواية، التي كُتبت بلسان الحيوانات، تكشف
"كيد" الأنظمة و"نفاقها"، وتُعدّ بمثابة "بياناً ثورياً"
في وجه الاستبداد الذي ما يزال "جاثماً" على صدور الكثير المجتمعات في مختلف
من دول العالم. ولهذا، يُصنّف الُنقّاد الغربيون هذه الرواية من بين أفضل مائة
رواية عالمية، ففي إطارها الساخر، ترمز الرواية لمعالم الثورة الروسية التي قادها "ستالين"
من أجل العدالة الاجتماعية، ثم أنتهت إلى النقيض تماماً من ذلك، فالرواية – حسب
النُقّاد – هي "مُحاكاة لواقع سياسيّ مُكتنزٌ بالمتناقضات والصراعات
الإيدولوجية في مرحلة جد حسّاسة من تاريخ روسيا والعالم ما بعد الحرب العالمية
الثانية". قدّم "أورويل" رؤيته في قالب أدبي يمتزج الخيال فيه
بالواقع، وبهذا تنتمي روايته هذه إلى فنون "الأدب الرمزي"، وهو فن أدبي ذاع صيته في القرن السابع عشرللميلاد.
بعد
هذا العرض نتسائل: كم نحنُ اليوم بحاجة إلى مثل هذه الفنون الأدبية التي قد تُسهم
بقالبها الأدبي الساخر في كشف ألوان جديدة من سياسات التعسّف التي ما تزال تُمارسها
للأسف حكومات مُتسلّطة، وأنظمة مُستبدّه تتعالى في شنان الملوك، وفخامة القصور ومراسيم التشريفات،
وتبتدع الكثير من علامات التمويهات، تُحاول بها سدّ ثغرات عجزها، وإخفاء ضعفها، وإضمار
تخلفّها، لتبقى على "عروش الرهبة" التي تُحيط بها نفسها في أعين رعاياها.
هذه الأنظمة "البائسة" التي لا "تُناقش ولا تُعصى"، باتت "لاصقة"
على صدور شعوبنا العربية المُستضعفة من مشرقها إلى مغربها، شرعت "الدولة
العميقة" لهذه الأنظمة "اليائسة" في تأصيل ما يُطلق عليه
ب"الثورات المُضادّة"، وساهمت في تبديد ثروات الأمّة العربية، فتفشّى
الفقر والعوز واحتدّ الجهل، وتفاقمت مُعدّلات البطالة، واستفحلت حوادث الجريمة، وفي
ظلّ هذا الوضع "المُتهاوي"، فضلّت هذه الأنظمة "المُترهلّة المارقة"
إنفاق سيولتها النقّدية ووفرّت أثمان ثرواتهها الطبيعية في شراء وتكديس "أسلحة"
لم ولن تُستخدمها إلا لقهر شعوبها، فضلاً عن أنها جذّرت الشقاق، ومكّنت الفرقة، وغرست
الفتنة، ومهدّت كل ما من شأنه تعزيز روح الكراهية بين أبناء شعوبها.
ها
أنا ذا قد قرأتُ لكم هذه الرواية المُكتنزة بالنصائح والدروس والعبر، ولم أتتوانى
أو أتردّد لحظة واحدة في طرح مُحتواها الهادف، ومغزاها الخفيّ، ومن شاء منكم "فليتببصّر"
في مضمون مُحتوى رسالتها "السامية" كما أراد لها كاتبها ذلك،
تيّمناً بما وعظ به الفقيه إبن القيم في كتابه "شفاء
العليل": "وكثيرٌ من العُقلاء يتعلّم من الحيوانات الُبهم أموراً تنفعه
في معاشه وأخلاقه وصناعته وحربه وحزمه وصبره".
عن المؤلف: إريك اثر بلير هو الإسم الحقيقي لجورج أورويل، وُلد في ولاية موتيهاري بالهند في عام 1903 م، حيث كان والده "ريتشارد بلير" يعمل كموظف في الادارة المدنية البريطانية، وفي عام 1922م ذهب إلى بورما وعمل في الشرطة الملكية الهندية لمدة خمس سنوات، كما عمل كمحرر صحفي عن الحرب الأهلية في أسبانبا، وخلال الحرب العالمية الثانية عمل في إذاعة البي بي سي البريطانية ثم أصبح المحرر الأدبي لمجلة التريبيون، توفى عن عمر يناهز السادسة والاربعون بعد إصابته بمرض السل في عام 1950م. نشرت له العديد من الروايات منها: أيام بورما (1934)، إبنة القسّيس (1935)، وجميع تلك الروايات كانت مُستوحاة من تجاربه الشخصية، إضافة إلى العديد من القصص الوثائقية والمقالات الأدبية والسياسية التي نُشرت في عدد من الصحف العالمية.