السبت، 26 سبتمبر 2020

العلعلان: تُعطّر "فأس" قاطعها

 

تدوين: يحيى السلماني

لم يكن مشهد شجرة العلعلان وهي تستعر بنيران الحريق الذي شبّ بين مفاصلها مشهداً عادّياً، بل كان عرضاً مرئيّاً مُؤلماً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، أصابنا بالدهشة، وحسسّنا بوجع الاستهتار، فقد غاب عن مُفتعل هذه الجريمة البشعة أدنى أخلاقيات التعامل مع عناصر الطبيعة التي وهبنا الله أياها، وكان أقل ما يمكن الالتزام به في أن "يترك المكان أفضل مّما كان"، استمتع "المُجرم" الفاعل بجمال الطبيعة البكر، وتفيّأ بأوراق هذه الشجرة الزاكية الوارفة الظلال، ثم "أكرمها" بإشعال النيران بين حشاياها، رحل عنها وتركها وأدخنة النيران تلتهمها وتتصاعد بين حناياها، توارى عنها وهي شاكية باكية بائسة مُتفحّمة مُستنجدة ب"عابر سبيل" لتروي له حكاية من "تحرّش" بها، مُلتمسة منه أن ينقل شكواها لجهة الاختصاص من أجل أن تحظى بقيّة ما تبقّى من بنات جنسها ومن جاورها من أشجار العلعلان بكرامة الحياة في موائلها الطبيعية دون تهديد جائر أو انتهاز قاهر، وعدها "عابر السبيل" بإيصال رسالتها، ولم يتباطئ لحظة واحدة في التغريد بقصّتها الدراماتيكية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي أثارت حفيظة كلّ غيور تربطه علاقة حميمة مع عناصر بيئة وطنه، فشاع خبرها وذاع في بيوت عُمان صيتها.            

لا يقتصر تواجد هذه الشجرة بالسلطنة، فهي مُنتشرة في بلدان كثيرة من بينها المملكة العربية السعودية الشقيقة وبلاد الشام وتركيا وعدد من الُبلدان المطلّة على حوض البحر المتوسط، وما يتوجب الإشارة إليه هنا أنّ عدد من المصادر التاريخية تُوّثق الأهمية الصحيّة لهذه الشجرة، فقد ورد ذكرها في وصفات فرعونية في برديّة "هيرست" و"إيبرز" كوصفات علاجية "لتسكين الآلام وأمراض القلب والصرع، ولعلاج التهابات المسالك البولية ولإدرار البول، ولتسكين المغص الكلوي، ولإزالة آلام المفاصل والروماتيزم ومعالجة الحروق، والسعال والربو".

مصداقية ما دونّه الفراعنه تؤكده وثائق الطبّ الإسلامي، ذكر الطبيب والفيلسوف إبن سينا شجرة العلعلان قائلاً: "العرعر، يقصد (العلعلان) مُسخّن ومُلطّف جيّد لشدخ العضل وأوجاع الصدر والسعال، يُنقيّ ويفتح السدد فيها، وهو للمعدة شراباً" أمّا العالم النباتي إبن البيطار فوصف الفوائد الصحيّة للشجرة قائلاً: "العرعر مُسخّن مُلطّف لرفع ضرر لسع الهوام وطرد الذباب تدخيناً"، وكتب الفلكي والطبيب داود الانطاكي: "العرعر يلحم الجراح ويحبس الدم ويخفف القروح ويحلّل الأورام، وثمرهُ طريّاً يشدّ ويلحم الفتق، ويمنع تساقط الشعر، ويُجبر الكسر ورضّ المفصل وضعف العصب".

عوداً على بدء، لا نبيح سرّاً إذا ما كشفنا بأن هذه ليست المرّة الأولى التي تتعرّض لها الأشجار البريّة بنيابة الجبل الأخضر للعبث من قبل أولئك الذي يتقصدّون التخريب، ويتعمّدون تشويه عناصر الحياة الفطرية دون سبب يذكر، فهذه الشجرة المُعمّرة التي قد يمتدّ عمر حياتها لأكثر من 250 سنة، وتمتاز بحجمها الكبير، وأغصانها الخضراء الناضرة، وتوّفرُ بأوراقها الكثيفة ظلال يمكن لمرتادي الجبل التفيئ تحتها دون الاحساس برطوبة الجو أو لفحة الحر، تعرضّت خلال السنوات الفائتة لتعديّات مُشابهة ما تزال مشاهدها حاضرة في ذهن "ذاكرتنا" البيئية، وهو ما يتنافى مع القرار الوزاري رقم (65 /2017 ) الخاص بإصدار "لائحة تنظيم عملية الاحتطاب والفحم النباتي" التي تحظر "ممارسة أنشطة الاحتطاب من أملاك الدولة أو تسخيم الحطب إلا بتصريح من الوزارة". 

جرت العادة أن يستفيد سكان نيابة الجبل الأخضر والمناطق المجاورة من خشب شجرة العلعلان الدائمة الخضرة في البناء والتعمير، هذه الشجرة التي يطلق عليها أيضا إسم "العرعر" تتميّز أخشابها بالصلابة وعدم تأثرها بمتغيرات الطقس، ويُستفاد منها في علاجات الطب الشعبي واستخلاص عدد من أنواع العطور المحلّية، ولهذه الشجرة تاريخها الطويل، فالدراسات البيولوجية تشير إلى أنها "إضطرت مع تغّير ظروف البيئة للهجرة للمرتفعات العالية بحثا عن الأجواء الباردة"، وتدلل الدراسات على أن "السلطنة قد مرّت بعصور باردة وظروف بيئية تاريخية، وهذا ما أظهرته أحدث المسوحات التي أكتشفت مستحثّات للشجرة في منطقة الحقف (محافظة الوسطى) وهي ما تبقى من العصور القديمة"، ولذلك لا تقتصر أهمية هذه الشجرة بالنسبة لأهالي الجبل الأخضر على قيمتها البيئية والصحيّة والجمالية، بل هي جزء لا يتجزأ من تراثهم الطبيعي، ولذلك، فعلاقة أهالي جبال الحجر الغربي بشجرة العلعلان مُتجذّرة منذ القدم.

من تسنح له فرصة التجوال في المناطق الجبلية بشمال السلطنة، يمكنه رصد هذه الشجرة الجميلة بسهولة لانتشارها بكثرة على مُرتفعات سلسلة جبال الحجر الغربي، يستفاد من فاكهتها لإضافة نكهة خاصة لبعض الأطعمة المُخَلَّلَة، ويستخلص منها زيوت عطرية، وتُستخدم في أحيان كثيرة كطارد للحشرات والقوارض، وطبيّاً، فهي تخفف من حرقة المعدة، وتُقلّل فُقدان الشهية، وتحسّن من آلام المفاصل والعضلات، وتُسهم في تضميد الجروح، ويستخدم البعض زيوتها للتقليل من مستوى سكر الدم.   

وحفاظاً على هذه الشجرة وغيرها من الأشجار التي تتعرّض لانتهاكات بشرية وطبيعية، وحفاظاً عليها من خطر الانقراض، صدر المرسوم السلطاني رقم (80/ 2011م) بإنشاء "محميّة الجبل الأخضر للمناظر الطبيعية" تتضمن ست مناطق طبيعية تقع على مساحة كلية تبلغ 116كم2، جميعها ذات أهمية فنية وثقافية خاصة، من خلال الأرض والمياه، وما يجمعانه من أحياء وتراكيب جيولوجية لتؤلّف مناظر طبيعية خلابه جديرة بالحماية والمحافظة.  وتمتاز المحمية بمناخها المعتدل صيفا والبارد شتاءً، وتضمّ بين جنباتها الأودية الواسعة وعيونها المائية المتدفقة التي تغذّي المخزونات الجوفية، وتنتشر بين سلسلة جبالها الكهوف التي تتزين بتكوينات جيولوجية استثنائية، وتأوي هذه المحمية العديد من أنواع الحياة الفطرية، فهناك أنواع نباتية مختلفة مثل “السدر والسمر واللثب والضجع والشوع والنمت والبوت والطلح والقصم والزيتون البري (العتم) وغابات أشجار العلعلان، وتتكاثر في هضاب وسهول المحمية حيوانات نادرة كالوعل العربي والذئب العربي والثعلب الجبلي، وتستضيف أشجارها وعيونها المائية أكثر من 71 نوعاً من الطيور من بينها: الحجل العربي والبلبل والحمام الجبلي والنسر المصري والعقاب الذهبي، وتعدّ أشجار العلعلان أحد الملاذات الامنة لهذه الطيور.

في ديسمبر 2011م، كتبت مقالاً بمجلة "الإنسان والبيئة" وقد نُشر ذات المقال في عدد من الصحف المحلية، ركزّت فيه على جملة الاهداف التي تسعى حكومة السلطنة لتحقيقها من إنشاء هذه المحمية، وكان مُختصر الأهداف العامة لإنشائها السعي إلى إصدار لائحة تنظيمية تتعلق بحماية وصون التنوع النباتي مع التركيز على حماية الأشجار من القطع والحرق العرضي، إضافة إلى إصدار لائحة تنظيمية تتعلق بحماية الطيور (مقيمه ومهاجره)، وأن تحرص جهة الاختصاص على تكثيف برامج التوعية البيئية، إلى جانب النظر في ضرورة تحديث القوانين والتشريعات البيئية، ووضع ضوابط تُحدّد الاشتراطات التي تنظم الانشطة السياحية بمختلف مناطق المحمية، فضلا عن تنفيذ عمليات الرصد والبحث البيئي وإصدار لا ئحة تحدّد الية استغلال الموارد الطبيعية كالاحتطاب بالجبل الأخضر، وتحديد أماكن للأنشطة الرعوية، وبحث الاثار الايجابية والسلبية للسدود التخزينية، مع عدم إغفال تحديد المناطق الأثرية والتاريخية بالجبل.

وبرغم هذا التوجّه للعناية بأشجار ونباتاتات وحيوانات وطيور الجبل الأخضر الذي من المفترض أن تولي له إدارة المحميّة إهتماماً خاصاً، ألا أنه في عام 2014م، تفاجأنا بتصنيف شجرة العلعلان في قائمة "نباتات عُمان الحمراء" المُعرّضة للإنقراض، وهو مؤشرٌ صريح لما تعاني منه هذه الشجرة من تهديد عشوائية الزحف العمراني، وممارسات الرعي الجائر والتحطيب، هذا ناهيك عن اثار السياحة غير المُقننّة، وعوامل موجات الجفاف الناتجة عن التغييرات المُناخية الفُجائية، وبهذا فقد بادرت عدد من الجهات من بينها وزارة البيئة والشؤون المناخية ووزارة الزراعة والثروة السمكية (سابقاً) بالتعاون مع جامعة السلطان قابوس في عام 2017م باستزراع مجموعة من النباتات النادرة  بالسلطنة من بينها شتلات العلعلان، بهدف تقليل اثار ظاهرة التصحر، ألا أن هذه المُبادرة لم تأتي بأكلها بعد،  وبهذا سنظل مُنتظرين أن تتحقق أهداف هذه المبادرة في قادم الوقت.    

عندما يقصد المئات من المواطنين والمقيمين قمم الجبل الاخضر، فهم يسعون إلى الإستمتاع بمفردات الطبيعة الغنّاء وبروعة الأجواء الربيعية اللطيفة، والتعطّر بالرائحة الزكية التي تنبعث من هذه الشجرة  الصنوبرية العملاقة، ولأن شجرة العلعلان من الأشجار سريعة الاحتراق قُدّر لها أن تُعاني من أزمات الكدمات (القطع) وحوادث الحروق. من هنا، ندرك جميعاً أن العبث بأشجار العلعلان يؤثّر بشكل مباشر على بقيّة عناصر التنوع الاحيائي الذي تزخر به هذه المحمية، ففقدان هذه الشجرة وغيرها من الأشجار يُسهم بدون أدنى شك في دفع الطيور والحيوانات إلى الهجرة من موائلها الطبيعية بحثاً عن موطن آخر أكثر استقراراً تواصل فيه حياتها بشكل امن، وقد يتسبّب هجرة بعض الطيور والحيوانات في هلاكها لعدم قدرتها على التأقلم بسهولة مع محيط البيئة الجديدة، كما أن تناقص الغطاء النباتي يؤدي حتما إلى زيادة مستوى تلوث الهواء بسبب زيادة كمية ثاني أكسيد الكربون التي تعلق في الجو ونقصان كمية الأكسجين التي تستخدمها الكائنات الحية في التنفس، إضافة إلى توسّع رقعة التصحر، هذا إلى جانب فقدان الجبل الأخضر مظهر من مظاهر الترفيه، فالإنسان عادة ما يستعين بغابات الأشجار للتنزه والترفيه عن نفسه، ولكن مع تزايد قطعها وحرقها تُصبح المواقع الخضراء جرداء خاوية. 

من هنا، وعندما تصبح هذه الأشجار عُرضة للإنتهاكات غير المسؤولة وبشكل أصبح متكرراً أكثر من أيّ وقت مضى، فهذا بكل تأكيد سيقوّض جملة الجهود والمبادرات الساعية إلى استعادة مكانة هذه الشجرة وغيرها من عناصر الطبيعة، ونحن يحق لنا هنا أن  نتسائل: أين دور أجهزة الرقابة البيئية؟ ألم يأن الأوان بعد لتعزيز إمكانات دور فرق مراقبي الحياة الفطرية فنيّاً؟ ألم يحن الوقت بعد لإجراء مسوحات ميدانية وعلمية للتحقّق من مدى إمكانية الاستفادة من زيوت هذه الشجرة طبياً قد تُغنينا عن استيراد بعض الأدوية من الخارج؟أدويةأدوية من الخارج؟ وهل لدى جهات الاختصاص مبادرة صادقة لقياس معدّل مستويات الوعي بأهمية الحفاظ على مثل هذه العناصر الطبيعية بالسلطنة؟ أليس من واجبنا نحن أيضا كمرتادي لمثل هذه المواقع السياحية "الحساسة" الالتزام بحدود الاشتراطات المُعتمدة من قبل جهات الاختصاص؟ 

هاجرت شجرة العلعلان برائحتها الزكيّة هاربة من "رمضاء" الصحراء بوسط السلطنة باحثة عن "دفء" سهول الجبل الأخضر لينطبق عليها بعد ما تكبّدت عناء ترحالها وتنقلّها المثل القائل:" "كالمُستجير من الرمضاء بالنار". قد يُصنّف البعض "واقعة" الجبل الأخضر حدثاً عارضاً أو رُبما مُتعمّداً من فئة غير مسؤولة هدفها إلحاق الضرر بعناصر بيئتنا، لكن لا بدّ من الإعتراف هنا من أننا نُواجه "إشكال بيئي" جادّ إذا ما علمنا أن شجرة العلعلان (العرعر)  بطيئة النموّ، وهي تتعرضّ بشكل مستمر للتدمير بواسطة القطع، والتشويه بواسطة الحرق، وبهذا، نرى توجيه التماسنا هذا إلى جهات الاختصاص للنظر بجديّة وحزم في منع إشعال النار والطهي تحت هذه الأشجار، وحذفها من قائمة "التحطيب" ولو برخصة رسمية، وهو ما يحدّ، من وجهة نظرنا، من نسب الضرر بمساحات الغطاء النباتي في مختلف مواقع هذه المحمية، كما أن الأمل معقود على زوّار هذه المحمية الالتزام بالتشريعات البيئية واحترام "حرمات وإحرامات" مثل هذه المواقع المحمّية، وبتظافر جهود الجميع ستبقى شجرة العلعلان (العرعر) مُنتصبة بقامتها، مُتطوّعة بعلاج مصابيها، تحتضنُ أغصانها المورقة من يأتيها قاصداً ليتفيأ بظلالها، و"تُبّخر" بروائح دُخانها جسد حارقها، وتُعطّر جذوعها وأغصانها "فأس" حتى ممن تسوّل له نفسه المساس بها.   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خور الملح موطن الذهب الأبيض

  تدوين: يحيى السلماني مع بداية فصل الصيف التي تمتد من مايو حتى شهر أكتوبر تنشط وتيرة انتاج الملح بالطريقة التقليدية في ولاية قريات. وبنهاية...