الخميس، 25 يونيو 2020

زهرة الربيع السوداء...!

قراءة وتدوين: يحيى السلماني
يقول عبقري الرواية العربية، الأديب الطيّب صالح: "حين تُعيد قراءة كتاب تمتّعت به في حينه، فكأنك لقيت صديقاً غاب عنك زمناً..".
في وقت سابق (2005م) قرأت سيرة المناضل السياسي نيلسون مانديلا، وبقي جزء كبير من أحداث سيرته مُلتصقة بذاكرتي لفترة طويلة، ألا أن بعض تفاصيل الملحمة النضالية بدأت، مع مرور الزمن، تتلاشى من الذاكرة شيئا فشيئا، عندها عزمت إعادة قراءتها بتمعّن أكثر، خصوصاً وأن العالم يتابع اليوم قصة القتل المُتعمّد التي تعرّض لها المُواطن الأمريكي "جورج فلويد"، والتي تؤكد على أن أساليب العنف والعنصرية ما تزال متفشيّة وتُمارس بلا هواده، لا سيّما في أميريكا التي تستضيف موانئها أكبر رموز الحريّة وأشهرها في العالم، وتُداوم على مناشدة المجتمع الدولي باحترام حرية الحقوق الفردية، وبهذا، اثرت هذه المرة أن أدوّن قرائتي لأحد ممن أفنوا حياتهم ضد العنصرية.  
إن المُطّلع على تاريخ المجتمعات قد تستوقفه الكثير من المواقف ليستلهم منها الدروس والعبر، وسيولج في نهاية المطاف برؤية مفادها: أن رغبة الإنسان في تحرير نفسه من القيود (سياسية كانت أم إجتماعية) قيمة إنسانية ينشدها جميع من يطمح في أن يعيش على هذه البسيطة بكرامة، ولكن، هل يمكن لقيم التحرر والاستقلال أن تتحقق محض الصدفة وبدون وجود عزيمة صادقة وإرادة قوية؟ وإن توافرت معطيات العزيمة والإرادة، هل سيجني صاحبها ثمرة ذلك دون تقديم أية تضحيات؟!
الروايات القديمة، تحكي قصصا عديدة عن أن الإنسان قد قدّم تضحيات "إستثنائية" في سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية لمجتمع بأكمله، فعندما تحوّل النظام السياسي للحكم في أثينا  القديمة إلى "نظام فوضوي" يسيطر عليه "الرعاع" باسم الاستحقاق الديمقراطي والمواطنة الحرّة، ثار الفيلسوف "سقراط" على ذلك الوضع، فأصدرت المحكمة العليا "الديكاستيرا" حكمها عليه بالإعدام لأنه "إصلاحي ويفسد أفكار الشباب بشكل خاص" من خلال نقده لنظام الحكم من جهة وآلهة اليونان التي ينسب لها "العصمة" من جهة أخرى. وكما جرت العادة، فهناك "استئناف" مسموح به للمحكوم عليهم قبل تجرّعهم كؤوس السم، وقد حاول "كريتو" المكلّف بإعداد السمّ لسقراط دفع "سقراط" لالتماس الاستئناف، غير أنّ "سقراط" قد رأى في طلبه الاستئناف "اعترافاً بشرعية نظام حكم الرعاع" في "الديكاستيرا" فرفض ذلك، وتجرّع الُسمّ لأنه كان يعي أن التضحية بروحه هي المخرج الوحيد لحلحلة تلك الأزمة.  
مُذكرات نيلسون مانديلا الذي رفض حياة التبعية والذل والإهانة والقهر والاستبداد منذ نعومة أظافره، فعزم، بإرادة صلبة، على تجاوزها تارة بطرق سلمية لعبت الدوبلوماسية فيها الدور الأكبر، وتارة أخرى أضطر فيها إلى مُقابلة العنف بالعنف، عاملاً بمبدأ "لا يفلّ الحديد إلا الحديد"، مُتخذاً من حكمة ما كان يتغنى به عنترة بن شدّاد: "وإذا أُبتليت بظالم كن ظالماً" مثله الأعلى، لكنه لم يُفلح في كلا الحالتين، وهو ما أودى به أن يقضى ثلث حياته وراء القضبان، فزُج به في غياهب السجون، وأُبعد عن أسرته، وغُيّب عن فلذات أكباده، ثم أُهينت معاملته، وحُكم عليه بالأعمال الشاقة، وسيرته التي دونّها في كتابه "رحلة طويلة من أجل الحرية"، تحكي شواهد حقيقية لمسار نضاله.  
من أراد أن يستوعب حجم المعاناة الإنسانية التي تعرّض لها هذا المناضل، لابدّ له أولاً من استقراء تاريخ "الجغرافيا السياسية" لجمهورية جنوب أفريقيا التي وُلد ونشأ فيها نيلسون مانديلا. بالمختصر، تُشير المصادر التاريخية، أن جنوب أفريقيا تُعدّ إحدى أغنى بلدان العالم بثرواتها الطبيعية ومناجمها "المُكتنزة" بالمعادن النفيسة، ومنذ أن تمكّن البحارة البرتغاليون إكتشاف أهميتها الإقتصادية في القرن السادس عشر، تزايد عدد الراغبين من البرتغاليين والهولنديين والفرنسيين والإنجليز في إقامة مزارع في ساحات شاسعة من الأراضي الخصبة، فسبروا أغوارها ثم توغلّوا في غاباتها المليئة بالثروات الطبيعية (أحيائية وجيولوجية)، وليتمكنوا من الوصول إلى مبتغاهم، أستخدم الأوروبيون "العربات الخشبية" التي تجرّها الخيول، حاملين بعض البنادق التقليدية، فأطلقوا النار على السكان الأصليين البُسطاء الذين كانوا يعملون في قطاعي الفلاحة والرعي.
ثم ما فتئت أن تشتد المنافسة بين هؤلاء المُستكشفين الغُزاة، ففي عام 1957 قررّت بريطانيا امتلاك (كاب تاون) حتى تستحوذ على الطريق البحري إلى الهند، وبه تتمكن من منع جيرانهم الفرنسيين من الوصول إليها، ألا أن البريطانيين واجهوا مقاومة شرسة من "البوير" الأفارقة، على إثر ذلك، أقيمت أربع جمهوريات منها تأسيس جمهورية "جنوب أفريقيا"، ثم وُقعّت مُعاهدة صلح بين البريطانيين والأفارقة، ألا أن هذه المعاهدة "لم تعترف إلا بحقوق البيض فقط، وبقي 80% من السكان الأصليين بدون أية حقوق سياسية أو إقتصادية"، ففي الوقت الذي كانت فيه "جنوب أفريقيا تنتج ثلث ذهب العالم بجهد وعرق الأفارقة السود الذين كانوا يعملون في المناجم ليل نهار دون حصولهم على أية إمتيازات"، إنطلقت شرارة التمرد من أجل الحصول على أدنى مستوى من "المكتسبات السياسة والاقتصادية"، وعلى إثر ذلك تأسس على يد "جون دوبي" في عام 1912م حزب "المؤتمر الوطني الأفريقي"، وهو ذات الحزب الذي إنتسب إليه نيلسون مانديلا بعد ما يقرب من ربع قرن.  
وكما نتداول نحن القول السائر: "إسم على مسمّى"، فإن "روليهلاهلا"، هو اللقب الذي أطلقه والده عليه عندما كان طفلا، ويعني في لغة "الكوسكا": "المُشاغب"، وفي هذا يتسائل نيلسون مانديلا: "هل تكهّن أبي بمستقبلي يوم وُلدت؟"، وهل إسم أي مولود يحدّد مواصفات شخصيته في مستقبل مسار حياته؟ لكنه من أين أتى بإسمه الجديد الذي أشتهر به؟ وُلد نيلسون مانديلا في 18 يوليو عام 1918، في قرية صغيرة تسمى "مفيتزو" تستلقي على ضفاف نهر "إمباشي" إحدى ضواحي إقليم "ترانسكاي" الذي يبعد ثمانمائة كيلومترا شرقي مدينة "كيب تاون" في جنوب افريقيا. وبعد أن عجز أساتذته البيض عن نطق إسمه الحقيقي، سُمِّيَ في مدرسة الإرسالية الابتدائية "نيلسون".توفي والده وهو في التاسعة من العمر، فانتقل إلى العيش مع حاكم شعب "ثامبو" جونجينتابا داليندييبو، الذي كفله رداً لجميل والده الذي زكاه رئيسا لقبيلة "ثامبو" قبل سنوات من ذلك. عاش نيلسون مانديلا طفولته كبقية الأطفال الأفارقة القلائل الذين استطاعوا دخول المدرسة الابتدائية، فأكمل دراسته بمدارس الإرسالية، وسجل نجاحا وتفوقا ملحوظا في دراسته، ثم التحق بكلية فورت هاري.
أدرك نيلسون ما نديلا، عندما كبر: "أن العامل الأساسي في صياغة شخصية الإنسان هو تنشئته وليس طبيعته التي ورثها". فكان والده، الذي نُصّب زعيماً للقرية على يد ملك التيمبو، يجنح إلى التمرد والاعتزاز بالنفس، كما كان مُتشدّداً في فهمه للعدل والظلم، وبهذا فالمُتبصّر في سيرته، يجد أن نضاله الشخصي يعد استكمالا لنضال من سبقوه من أبناء جلدته، يُوثّق نيلسون ذلك في مذكراته اليومية قائلا: "بينما كان والدي يروي لنا قصص المعارك التاريخية وبطولات قدماء المحاربين من أبناء "الكوسا"، كانت أمي تتغنى بأساطير "الكوسا" وملاحمهم وأساطيرهم التي تعود إلى أجيال غابرة، وكانت تلك القصص تُثير خيالي الغضّ لما كانت تحمله من مغاز عميقة ومتنوعة". ويرى ممن يتعاطفون مع سيرته الذاتية، أن نضاله ليس سوى استمرار لنضال أبيه الذي وقف في وجه الحاكم الذي طلب حضوره بسبب خلاف على الماشية قائلا: "لن أحضر لأنني أتوشّح سيفي استعدادا للمعركة، أراد والدي بجوابه ذاك أن يبّين أنه ليس للحاكم المحلي سلطان شرعي عليه وبأنّه في الشؤون القبيلية لا يلتزم بقوانين ملك إنكلترا ولكن بتقاليد التيمبو وأعرافهم".
حظي نيلسون مانديلا ببصيرة قوية، فلم تكن مواقف حياته عابرة، بل كانت تمثل له دروساً إنسانية استثنائة، كما لم تكن التنشئة الاجتماعية والدراسة الاكاديمية وحدهما من استسقى منهما المنفعة الحياتية، بل نتلمس من سيرته أن في مرحلة طفولته تعلّم من "الحمار"، هذه الدابة التي نصفها نحن بالغباء، درساً هاماً في كيفية التعامل والتواصل مع بني جنسه، يُشير في هذا الصدد إلى قصته مع "الحمار" الذي ركله: "وبعد أن أهانني الحمار أدركت أن إهانة الآخرين معاناة لا داعي لها، وتعلمت منذ صغري أن أنتصر على خصومي ولكن دون الإساءة إلى كراماتهم...."، كان يدرك تمام الإدراك بأن معركته مع عدوه هي معركة إنسانية  وأخلاقية بالدرجة الأولى.
تُوفى والده وهو مايزال فى عامه التاسع، ثم عاش مع الوصى "جونجينتابا"، الذي قرّر تربيته إكراماً لعلاقته الطيبة مع أبيه، في العشرينات من عمره، شارك نيلسون مانديلا في أنشطة الحركة المناهضة للفصل العنصري، ثم في عام 1942 م انضم إلى المؤتمر الوطني الافريقي، ثم ساهم في تفعيل الحملة السلمية "غير العنيفة" ضد السياسات العنصرية لحكومة جنوب افريقيا. وبسبب وقوفه بجانب الطلاب ومطالبته بالمساواة تم فصله من الكلية، وهو ما أثار حفيظة أبيه الذي تبناه، ولكي يكبح أبيه جماحه، إختار له أحد بنات القبيلة ليزوجه، عندها ترك نيلسون مانديلا  المنزل ليبعد نفسه عن قوانين القبلية التي رأى أنها تحاصره، وعاش عازباً في مدينة جوهانسبرغ، حيث كان يكدح لتوفير لقمة العيش، ثم أنهى دراساته الجامعية بها. 
وتجاوزاً للمواقف المُثيرة للضحك التي واجهت نيلسون مانديلا في مدينة جوهانسبرح بسبب ريفيته وفقره، أصبح مانديلا ناشطاً فاعلاً في الحركة المناهضة للفصل العنصري، فأنضم إلى حزب المؤتمر الوطني الافريقي في عام 1942 . وفي عام 1949، بدأ المؤتمر الوطني الافريقي رسميا بداية المقاطعة والإضراب والعصيان المدني وعدم التعاون مع أهداف سياسة المواطنة الكاملة، وإعادة توزيع الاراضي والحقوق النقابية، والتعليم المجاني والإلزامي لجميع الاطفال. يقول مانديلا: "لا أستطيع أن أحدّد بدقة اللحظة التي تحولت فيها إلى السياسة، وأيقنت بأنني سأكرس بقية حياتي للنضال من أجل التحرير، فأن يكون المرء أفريقياً في جنوب أفريقيا يعني أنه يولد مسيّساً، سواء أقرّ بذلك أم لم يقرّ، فالأفريقي يُولد في مستشفى خاص بالأفريقيين فقط، وتقلّه إلى البيت حافلة مُخصّصة للأفريقيين فقط، ويسكن في حيّ مُخصص للأفريقيين فقط، ويتلقّى التعليم – إن تلقّاه – في مدارس للأفريقيين وحدهم...ويركب وسائل نقل مُخصصة للأفريقيين فقط، وهو مُعّرض للمسائلة عن بطاقته وهويته في أيّ ساعة، وإن لم يبرزها يُعتقل ويُزجّ به في الحبس، إن حياة الأفريقي كلها مُكبّلة بالقوانين والأنظمة العنصرية التي تعوق نموّه وتُبدّد إمكانياته، وتُشلّ حياته...". ويقول ما نديلا: "كان الأفريقيون في حاجة ماسّة إلى مساندة القانون عند استخدام المباني الحكومية، فقد كان الدخول من الباب المُخصص للبيض فقط جريمه، وكان ركوب الحافلة العامة الخاصة بالبيض فقط جريمة، وكان الشرب من الحنفية المخصصة للبيض جريمة، وكان المشي على شط البحر المُخصص للبيض جريمة، وكان الخروج إلى الشوارع بعد الحادية عشر ليلا جريمة... كانت البطالة جريمة، والعمل في وظائف معينة جريمة، وكانت الإقامة في أماكن محددة جريمة، والتشرد جريمة"، وقد كان الهدف من كل ذلك هو ترسيخ سيادة البيض إلى الأبد. ويضيف: "لم تظهر أمامي علامة في السماء، ولم أتلق وحياً، ولم ألهم الحقيقة في لحظة معينة، ولكنها الاف الاستخفافات والاف الإهانات والاف اللحظات المنسيّة تجمّعت لتُثير في نفسي ذلك الغضب وروح التمرد والرغبة في مناهضة النظام الذي عزل قومي واستعبدهم...".
في ظل هذا الوضع "المُهين"، شهد عام 1946 م أكبر إضراب من نوعه في تاريخ جنوب أفريقيا، حيث أضرب ما يقرب من سبعون من عُمّال المناجم لمدة أسبوع، ولكن الإضراب قُمع، وانتصرت سلطة الدولة في نهاية المطاف، كما أثار "قانون حيازة الأراضي الخاص بالاسيويين" الذي حدّ من حركة الهنود ورسم حدود المناطق المسموح لهم بالعيش والتجارة داخلها، وقيّد من حقوقهم في شراء العقار، جرّت نيلسون مانديلا إلى إعادة صياغة المنهج الذي سيتعامل به مع هكذا أحداث. وخلال الحراك السياسي المناهض للعنصرية، أسّس نيلسون مانديلا مع صديقه "أوليفر تامبو" مكتباً للمحاماة، كان الأول من نوعه انذاك، حيث لم يكن يسمح للأفارقة السود بذلك، قدّم المكتب إستشارات قانونية بتكلفة تتناسب مع الدخل العام للأفارقة السود، كما أن في كثير من الأحيان يراعي المكتب ظروف المدعي فتقدم لهم الاستشارة القانونية مجانا.
يقول نيلسون: "كنا نستقبل أسبوعيا رجالا كبار في السن من الأرياف طُردوا من أراض جرداء ظل أباءهم وأجدادهم يحرثونها ويزرعونها على مدى أجيال، وكنّا نستقبل أسبوعيا سيدات تقدمت بهن السن كن يعملن في عصر البيرة ليجدن ما يعلن به أسرهن ثم أصبحن معرضات للسجن ودفع غرامات ليس بمقدورهن دفعها، واستقبلنا أناسا عاشوا في بيت واحد لمدة عقود ثم أصبح بين عشية وضحاها في منطقة للبيض وبات عليهم مغادرته بدون الحصول على أي تعويضات....".  ألا أن الحكومة لم يرق لها هذا الحراك السلمي الذي يقف ضد سياساتها، وبهذا وفي عام 1956 أُلقي القبض على نيلسون مانديلا و150 من المنتمين للحراك بتهمة التحريض على مقاومة قوانين التمييز العنصري، فصدر حكم بسجنه مع وقف التنفيذ، ومُنِع من مغادرة مدينة جوهانسبرغ لمدة ستة أشهر، في هذه الأثناء، عزم نيلسون مانديلا استثمار الوقت بإعداد استراتيجية تدعم حركة المقاومة، وهي استراتيجية خلصت إلى ضرورة تحويل فروع الحزب إلى خلايا للمقاومة السرية.
هذا المنعطف، جّر إلى حدوث مذبحة "شاريفيل" سنة 1960 ، التي أطلق فيها رجال الشرطة النار على المتظاهرين، فأودت بحياة المئات من الأفارقة السود، ثم إثر ذلك الحدث، حظرت السلطات كافة نشاطات حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، واعتُقِل عل إثر ذلك نيلسون مانديلا. وبعد الإفراج عنه سنة 1961 قاد المقاومة السرية، وسافر سّراً إلى عدة دول أفريقية، منها أثيوبيا، ودول شمال أفريقيا والسودان وبريطانيا وغيرها،  ولطالما سخر  مانديلا من عدم كفاءة الشرطة في ملاحقته، حيث تمكن من تفادي الوقوع في فخ رجال الأمن عدة مرات، كانت إحداها، والوصف على لسان مانديلا: "عندما وقفت بسيارتي عند إشارة المرور في وسط المدينة، التفت فرأيت في السيارة المجاورة العقيد "سبينغلر" رئيس قسم الأمن، الذي يعتبرني صيدا ثمينا يتمنى لو وقعت عليه يداه، كنت أرتدي قبعة عامل وبزة ميكانيكي زرقاء ونظارتي المعتادة، لم يدر بصره نحوي، ورغم ذلك فقد مرت الثواني ريثما تغيرت الإشارة الحمراء وكأنها ساعات..".
وعن الطريقة التي كان يتبعّها في التخفّي يقول مانديلا: "كُنت أحرص على أن أظهر رثّ الهيئة بقدر المستطاع، وكانت ملابسي تبدو مهلهلة"، وبحكم مهارته العالية في التخفّي، لقّبته الصحافة الدولية ب"زهرة الربيع السوداء" (Black Primpernel ) وهو تحريف للقب بطل رواية "البارونه أوركزي" المشهور بإسم زهرة الربيع القرمزية (Scarlet Pimpernel ) الذي أظهر جرأة فائقة في تجنب الوقوع في يد العدو إبان الثورة الفرنسية، وهذه الزهرة، كما تشير المصادر، هي "زهرة تنقبض عند سوء الأحوال الجوية، وظهور الغيوم أو نزول المطر، ويرمز بها لمن يتقن فن تفادي الخطر والتخفي من العدو، وأصبحت الزهرة القرمزية رمزا للشخص المراوغ الشجاع الذي يظهر مهارة عالية في العمل السرّي".
لم يكن الحراك السلمي مجديا، فكرامة الأفريقي الأسود مهانة بشتى الأساليب، عندها قرر حزب المؤتمر الوطني توجب المعاملة بالمثل، ومواجهة عنف الدولة بعنف معاكس من حركة المقاومة. يقول مانديلا في مذكراته: "كانت تلك خطوة حاسمة في تاريخ الحزب الذي ظل خمسين عاما يعتبر العمل السلمي ونبذ العنف من صميم سياسته بلا جدال أو نقاش". الأهم ما في الأمر، أن مهمة تنظيم القوى المسلحة أوكلت إلى نيلسون مانديلا الذي يجهل أبجديات التسلح، فهو لم يخض حربا ولم يطلق رصاصة واحدة في وجه عدو. يقول واصفا مهمته: "إنها مهمة هائلة ينوء بحملها أعتى الجنرالات ناهيك عن مبتدئ مثلي". من هنا نشأت منظمة (أمكا) وتعني "رمح الأمة"، وقد أختير الرمح لأنه يحمل دلالة لنوعية السلاح الذي واجه به الأفريقيون الغزاة البيض عدة قرون.
وإيمانا من نيلسون مانديلا بأن الحرية لا تتحقق إلا بتحمّل المشاق والتضحيات والمواجهة والتحدي، واصل نضاله من أجل الحرية حتى الموت، ففي ذكرى يوم الحرية، 26 يونيو 1961م، أصدر مانديلا بيانا للصحف من مخبأه قال فيه: "علمت بصدور أمر القبض عليّ.... لقد فضّلت السبيل الأصعب والأخطر بكل مشاقه وتبعاته على الجلوس في داخل السجن، هجرت زوجتي وأطفالي وأمي وأخواتي لأعيش داخل وطني مُطارداً من قبل القانون، وسأحارب هذه الحكومة معكم جنبا إلى جنب، وشبراً بشبر حتى النصر.... لن أغادر جنوب أفريقيا ولن أستسلم". ألا أن اختفاءه وتنقله في مختلف أنحاء جنوب أقريقيا لم يدم طويلا، ثم أعتقل بعد عودته بتهمة مغادرة البلاد بطريقة غير قانونية، والتحريض على الإضرابات وأعمال العنف. وفي هذه الظروف، يصف حالته في المحاكمة بالقول "أثناء محاكمتي دخلت قاعة المحكمة بملابس الكوسا المصنوعة من جلد النمر، وقد اخترت هذا الزى لأُبْرِزَ المعنى الرمزي لكوني رجلاً أفريقياً يحاكم في محكمة للرجل الأبيض، وكنت أحمل على كتفي تاريخ قومي وثقافاتهم، وكنت على يقين أن ظهوري بذلك الزى سيخيف السلطة من ثقافة أفريقيا وحضارتها".
حُكم عليه بالسجن خمس سنوات، وقبل أن ينهيها صدر عليه حكم بالسجن المؤبد سنة 1964، فكانت بداية جديدة لرحلة نضاله التي استمرت أكثر من ربع قرن، تحول خلالها مانديلا إلى أيقونة الحرية والتضحية من أجل كرامة الوطن. خلال السنوات التي قضاها في سجن بجزيرة "روبن"، عرضت عليه السلطات تغيير توجهاته السياسية مقابل الإفراج عنه، ألا أن مانديلا رفض ذلك العرض رفضاً قاطعاً، وهو ما نتج عنه إطلاق سراحه سنة 1990. وبعد 27 عاما قضاها مانديلا في غياهب السجون، أصبحت صورته تتصدر الصفحات الأولى في الصحف العالمية التي وصفته بأنه "رمزاً دولياً لمكافحة الأنظمة القمعية والعنصرية في العالم"، وقد كان للتغطيات الصحفية أثراً كبيراً في تعاطف المجتمع الدولي لقضيتة. وبعد الإفراج عنه أعلن وقف الكفاح المسلح وقاد المفاوضات مع رئيس جنوب أفريقيا الأبيض "فريدريك ويليام ديكليرك" لإنهاء التمييز العنصري، وتحقيق طموحه الذي عبّر عنه في كتابه "رحلتي الطويلة في طريق الحرية" قائلاً: "عندما خرجت من السجن كانت مهمتي تتمثل في تحرير الظالم والمظلوم معا".
في عام 1991 م، انُتخب نيلسون مانديلا رئيساً للمؤتمر الوطني الافريقي، مع صديق عمره وزميله "أوليفر تامبو" الذي تولى وقتها منصب الرئيس الوطني، وواصل نيلسون مانديلا التفاوض مع الرئيس "دي كليرك" لإجراء أول انتخابات مُتعددة الاعراق في البلاد، وفي عام 1993م، تم منح نيلسون مانديلا والرئيس دي كليرك جائزة "نوبل للسلام" تقديراً لجهودهم التي نجحت في تفكيك نظام الفصل العنصري، وفي 27 إبريل 1994م، نُظمّت أول انتخابات ديمقراطية، وانُتخب على إثرها نيلسون مانديلا كأول رئيس "أسود" للبلاد في 10 مايو 1994م، عن عمر يُناهز 77 عاماً ، وكان "دي كليرك" نائبا له .
ومن يستطلع سيرته الذاتية، يجد أن مانديلا لم ينسب كل هذه النجاحات لنفسه، ولم يكتبها بإسمه فقط، بل ذكر قائمة طويلة من أسماء الذين شاركوه النضال، وضحّوا ب"أموالهم وأنفسهم" لنصرة قضيتهم، ولعل أفضل اللحظات نُبلاً وإنسانية ووفاء عندما تنقل له زوجته خبر وفاة رفيق دربه المحامي "برام فيشر"، فيفضفض بعبارات الحزن والشفقة: "مهما عانيت أنا في سبيل الحرية، فقد كنت أستمدّ قوّتي من أنني أُناضل إلى جانب قومي ومن أجلهم، أما "برام فيشر" فقد كان إنساناً حُراً حارب قومه لضمان حرية الآخرين". والمُتتبع لسيرة نيلسون مانديلا، يجد أن أقسى لحظة عايشها عندما كان في منفاه بجزيرة روبن هو تلقّيه لخبر وفاة والدته وإبنه، يتسائل بحرقة: "هل كان اختياري وتقديم مصلحة الآخرين على مصلحتي الشخصية ومصلحة أسرتي اختياراً صائباً؟". وفي ذات الصدد يبدو أن مانديلا قد أجاب على سؤاله هذا بنفسه حينما أشار في محتوى مذكراته: "إن الحرية لا تقبل التجزئة... لأن القيود التي تُكّبل شخصاً واحداً في بلادي إنما هي قيوداً تُكّبل أبناء وطني أجمعين"، وهو ما يؤكّد على أن أبناء جنوب أفريقيا "كالجسد الواحد" وإن تباينت ثقافاتهم وانتماءاتهم السياسية و العرقية، فالضرر بأي منهم يعني الضرر بالجميع.     
إعتزل مانديلا السياسة قبل موعد الانتخابات العامة لعام 1999م، ألا أنه واصل مبادراته الإنسانية (التطوعيّة)، فجمع الأموال لبناء المدارس والعيادات في قلب الريف الأفريقي، كما قام بدور الوسيط في الحرب الاهلية في بوروندي، ألا أن الامور لم تستمر كثيراً بعد أن أُكتشف بأنه مصاب بمرض السرطان، وبهذا وفي شهر يونيو من عام 2004م، عن عمر يناهز ال 85 تقاعد رسميا من الحياة العامة، وعاد إلى قريته "قونو" في جنوب جوهانسبرج، وفي الخامس من ديسمبر 2013م، وعن عمر يناهز ال 95 عاماً ، توفي نيلسون مانديلا في منزله، وحضر جنازته رؤساء دول العالم، ثم أعلن يوم 18 يوليو "يوم مانديلا" تعزيزاً لجهوده الداعية إلى تعزيز تقافة الحريّة والسلام الدولي.
 يتبّين مما سبق، أن تاريخ العنصرية وقمع الحريات موغلٌ في القدم، فكما عانى "سقراط" عانى الأفارقة من ذوي البشرة "الداكنة"، وما تتناقله وسائل الإعلام اليوم لمشاهد المظاهرات في أوروبا وأمريكا ما هو إلا إمتداد لثورات سابقه، وكما عانى الأفارقة السمر، عاني أيضا "اليابانيون" خصوصاً بعد الأحداث الشهيرة ل"بيرل هابر" في عام 1941م، ولم يسلم سكان أستراليا الأصليين (الأبورجيون) والهنود من مختلف أنواع القمع الاجتماعي والسياسي، أما ما تعانيه المجتمعات "المُسلمة" من ممارسات "ممقوتة" منذ قرون فهو أمرٌ لا يحتاج إلى كثير من الشرح والتمحيص، وتكفينا الإشارة هنا إلى أن مُعاناتهم اليومية، من افات المُستعمر التي تُمارس على مرأى ومسمع من الجميع بأشكالها المختلفة قد يُفضي إلى ما دونّه "مانديلا" بقوله: "عندما يبدأ الماء بالغليان فمن الحماقة إطفاء الحرارة"،     
هذه بعض من "الوقفات" في حياة المُناضل نيلسون مانديلا، وسيرته تصدّق المقولة المشهورة القائلة: "إذا كُسرت بيضة بواسطة قوة خارجية، فإن حياتها قد إنتهت، أما إذا كُسرت بواسطة قوة داخلية، فإن هناك حياة قد بدأت"، فبعد عقود متتالية من النضال والكفاح والتضحية، تمكنّت "جنوب أفريقيا" من التعايش مع مختلف الأطياف السياسية، وسيرة مانديلا ستظلّ "نموذجاً نضالياً" لعشرات السير الذاتية التي ضحّت بحياتها لتتذوق شعوبها طعم الحريّة والإستقلال.  وستبقى مقولته المشهورة: "أنا لست حُراً حقّاً إذا أُخذت حرية شخص آخر" يتوارثها أبناء جنوب أفريقيا جيل بعد جيل، بل قد تشعل جذوة حماس كل من ينشد الحرية وينبذ الإستبداد  بمختلف صوره وأشكاله.  


الأربعاء، 17 يونيو 2020

"ما هكذا تورد الإبل...!"



تدوين: يحيى السلماني
في مشهد مؤثرّ، تناقلت وسائل التواصل الإجتماعي مؤخراً مادة "فيلميه" لأحد الأطبّاء البيطريين وهو يتخلص من كميات كبيرة من النفايات البلاستيكية ابتلعتها إحدى "الإبل" بمحافظة ظفار، وقد لاقى هذا الفيديو المُتناقل اهتمام الكثير ممن يولون عناية خاصة بقضايا البيئة خصوصاً تلك المتصلة بالرعي والرفق بالحيوان بالسلطنة، هذا المشهد الذي تناول أحد الجوانب التي تمسّ حياة "الإبل" في السلطنة هو ليس الأول من نوعه، فقد خُصّصت قبيل أشهر "هاشتاجات" سلّطت الضوء على تعرّض حياة "الإبل" للإنتهاكات في الطرق السريعة، وهي مشاهدٌ أستوقفتنا ولفتت نظرنا للحديث عن أمر هذه "الظواهر" التي تلامس حياة أحد أهم الموارد الطبيعية لثروتنا الحيوانية بالسلطنة.
بادئ ذي بدء، إن الإحصائيات الصادرة عن وزارة الزراعة والثروة السمكية تشير بأن "السلطنة تأوي  (3433840) من الحيوانات منها (257710)  جملاً"، تعتمد معظمها على نظام "الرعي التقليدي"، أو في حالات أخرى على نظام "التربية المنزلية"، فضلا عن نظام "التربية المُكثّف" الذي يعتمد على تربية الحيوانات في حظائر "تجارية" خاصة. وتقدّر الوزارة مساحة المراعي والغابات في محافظة ظفار بوجه خاص "بنحو (500) ألف هكتار"، وتُصنّف السلاسل الجبلية الممتدة من ولاية ضلكوت غرباً وحتى ولاية سدح شرقاً المنطقة الرعوية الأساسية في المحافظة، نظراً لما تتميز به من "خصائص أحيائية (بيولوجية) فريدة"، ألا أن هذه المراعي تعاني من عمليات الرعي الجائر، وتأثيرات الأنشطة السياحية، وندرة المياه، و"استقطاع" مساحات كبيرة من أراضي الريف وتوزيعها كمناطق سكنية، كما ساهم حفرالآبار الارتوازية على امتداد هذه السلسلة الجبلية في اتساع رقعة التصحر، وبدقة أكثر، فإن الدراسات البيئية تؤكد "أن 90% من مساحات المراعي تاكلت بسبب الرعي الجائر بالمحافظة". وهناك "ما يقرب من 14 الف حائز رعوي في محافظة ظفار"، وبيانات منظمة الزراعة والاغذية للامم المتحدة (الفاو) تشير إلى "انه خلال عام 1990م قدّرت طاقة مراعي جبال ظفار بـ 2.8 مرة أقل مما تحتاجه الحيوانات التي تعيش عليها، وبهذا تقدر نسبة الرعي الجائر بـ 65% وهي نسبة عالية جداً حيث ان الرعي الجائر عندما يصل الى نسبة 30% يؤدي الى التصحر وانجراف التربة وتدهور جودة المراعي".
تُعدّ ظاهرة الرعي الجائر السبب الاول والاهم في تدهور المراعي الطبيعية بجبال محافظة ظفار، وتتمثل هذه الظاهرة في زيادة أعداد الثروة الحيوانية وتجاوزها طاقة حمولة تلك المراعي بمقدار ثلاثة أضعاف تقريباً مما أدى إلى سوء استغلال هذه المراعي وتدهورها، وفي هذا السياق يوضح المسح الذي نفذّته وزارة الزراعة والثروة السمكية "أن 90% من المراعي الطبيعية بجبال ظفار فقيرة نتيجة لعمليات الرعي المُفرط، نتج عنها تدمير سريع للغطاء النباتي"، وهو الأمر الذي تصبح فيه "الإبل" مضطرة للبحث عن "قوت" يومها في مراعي جافة لا تتوافر بها المادة الغذائية الصحية، وقد قامت وزارة الزراعة والثروة السمكية في تسعينات القرن الماضي  بتجربة "إراحة المراعي" في عقبة طوق بنيابة طيطام التابعة لولاية صلالة، وقد اتت هذه التجربة بثمارها، حيث أفادنا الدكتور محاد شماس، أحد خبراء البيئة بالمحافظة، "أن كميات النباتات نمت بواقع عشرة أضعاف"، ألا أن الوزارة لم تواصل ذات التجربة منذ ذلك الحين.
هناك أيضاً الأثر السياحي، أحدث الإحصائيات الصادرة عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات تشير إلى أن عدد زوار خريف صلالة فقط خلال العام المنصرم (2019م)  709 ألفا و 97 سائحاً توافدوا على المحافظة من مختلف بقاع العالم. وهذا الرقم يوحي أن المحافظة تحظى "بنصيب الأسد" من جملة السواح بالسلطنة خلال فترة الصيف التي تمتّد من يوليو حتى نهاية سبتمبر من كل عام، وهي فترة الذروة لنمو نباتات وأعشاب المراعي. ألا أن التراخي في التعامل مع هذه الافواج من السواح يؤثر سلبا على مواردها الطبيعية، ولنا في المشهد المتداول بمنصات التواصل الاجتماعي خير مثال، ففي ظل غياب الرقابة من قبل جهات الإختصاص في التخلص من نفايات السائح بمختلف أنواعها (خصوصا البلاستيكية) يتسبّب كل ذلك في إنهاك الطبيعة وهلاك مواردها الأحيائية، ناهيك عن التسبب فيما يطلق عليه "التشوية البصري"، فتفتقد مراعي المحافظة جمال سهولها ونضارة سلسلة جبالها الخضراء، هذا التشويه ناتج من عدم مبالاة السائح وتقيّده بشعار "أترك المكان أحسن مما كان"، ولم تكلّف الجهات المختصة مسؤوليها لإيجاد الية حديثة تحقق من خلالها ما تُنادي به منذ عقود تحت شعار "السياحة المستدامة"، على ضوء ذلك، يتوجب علينا أن لا نتناسى أن إستدامة السياحة بمحافظة ظفار تُعتبر "ضرورة وليست ترفاً"،  وكلنا أمل في أن تتمكن مراعي المحافظة من استعادة مكانتها، خصوصاً في ظل الحظر الرسمي عن مُمارسة أي نشاط سياحي خلال هذا الموسم تجنّباً لتوسّع الاثار الصحية لفيروس كورونا، وربما سيسهم هذا الحظر في تقليص حجم النفايات التي تتضرر منها جميع الحيوانات بما فيها "الإبل"، وربما تُصبح "ضارّة" كورونا "نافعة" لمراعي المحافظة و"إبلها".
في حدود السلطنة، والحديث بالحديث يذكر، باتت أيضاً ظاهرة "الجمال السائبة" تُشغل شريحة واسعة من المجتمع، وقد حازت هذه الظاهرة على صدارة قائمة التغريدات في منصّات التواصل الإجتماعي، حيث عبّر الكثيرين عن امتعاضهم، وتوالت إتهاماتهم لتسبّبها في الكثير من الحوادث المروّعة التي جلبت "الأحزان" للكثير من الأسر، ناهيك عن إزهاق أرواح بريئة. علاوة على ذلك، تتسبّب "الإبل" السائبة وغيرها من الحيوانات في "تخريب" مشاريع التشجير التي تسعى الأجهزة البلدية من خلالها إلى توسعة الرقع الخضراء في مختلف ولايات السلطنة، كل ذلك جاء نتيجة تمادي مُلاّك عشرات القطعان من "الإبل" في الحفاظ على حياتها ومتابعة تربيتها بشكل جيد، وأصبح من الطبيعي أن يتسائل البعض عبر منصات التواصل الإجتماعي بشيء من الإلحاح عن نوع الالية التي تعمل بها الجهات المختصة للحد من انتشار هذه الظاهرة؟  وما المادة القانونية التي قد تستند إليها لردع مُلاّك هذه الإبل؟.
استناداً إلى خبراتنا العملية المتواضعة في المجال البلدي لسنوات خلت (1993 – 2007م)، نُدرك أن جهات الاختصاص التي توكل إليها مهام متابعة هذه القضية هي الأجهزة البلدية، فبلدية مسقط تطبق الامر المحلي رقم (91 / 20) الداعي إلى "عدم ترك الأغنام السائبة في الطرقات ويمنع تربيتها في الأحياء السكنية"، أما المادة رقم (1) من قانون تنظيم البلديات الإقليمية الصادر بالمرسوم السلطاني رقم ( 86 / 87) والقرار الوزاري رقم ( 86 / 8 ) بشأن تنظيم حفظ الحيوانات السائبة أو المهملة فتنص على الاتي: "يُحظر ترك الحيوانات مهملة أو سائبة أو السماح لها بالرعي في المدن والقرى السكنية أو على مسافة تقل عن كيلومتر واحد من الطرق العامة والرئيسية، وعن نصف كيلومتر من الطرق الفرعية، كما لا يسمح لها بالرعي في الأماكن غير المخصصة لها"، وما يُبشّر بالخير فأنه قد تم مؤخرا إحالة عدد من المخالفين للإدعاء العام حسب تغريدة نشرتها الوزارة عبر حسابها الرسمي على تويتر.
ما نود التنويه به هنا أن ظاهرة الحيوانات السائبة ليست حديثة العهد، بل هي ظاهرة تسعى الاجهزة البلدية منذ تسعينات القرن الماضي إلى الحد من خطورتها، وقد كان لي شخصيا شرف مُشاركة زملائي في صياغة التقارير الخبرية المتصلة بتسيّب ونفوق الحيوانات السائبة بالسلطنة وذلك فور التحاقي بالعمل في وزارة البلديات الإقليمية والبيئة (انذاك) في عام 1993م. ولذا، نجد أن استمرار  هذا الإشكال يتمثّل في عدة أسباب، منها إهمال الملاك لحيواناتهم، أما الأمر الثاني فيعزى ربما إلى ضعف "الرقابة الميدانية" المستمرة من قبل الأجهزة البلدية، كما يتوجّب في ذات الوقت تعزيز أدوار "الضبط الإداري والقضائي" لحماية مستخدمي الطريق، ومن ثم توفير الوقاية "للإبل" وتجنيب هذه الحيوانات - التي لهم فيها منافعٌ كثيرة - مصائب الحوادث المرورية، وما نتمناه هو أن تنتهي مثل هذه العوارض المُحزنة في قادم الوقت، خصوصا وأن الأجهزة البلدية تواصل جاهدة منذ تسعينات القرن الماضي بث برامجها التوعوية الهادفة إلى تعريف شريحة مُربي "الإبل" والمواشي بالأضرار الجسيمة التي تتسبّب فيها إهمال مواشيهم و إبلهم.  
ولتكتمل الصورة، فإن مسلسل الإنتهاكات التي تتعرض لها "الإبل" لا تتوقف عند حدود السلطنة فحسب، بل أصبحت  هذه المخلوقات التي سخّرها الله سبحانه وتعالى للناس متاعاً، يشربون ألبانها، ويأكلون لحومها، ويلبسون جلودها، ويرتحلون على ظهورها، ، غير مُستثناه من موجة التأثيرات الجانبية للتحضّر المدني التي تلقي بظلالها على الأخضر واليابس، فمثلما تُعاني "إبل" السلطنة من مرارة "التشتّت والإهمال"، تتعرّض حياتها في دول أخرى مثل أستراليا على سبيل المثال لا الحصر، للانتهاك مع "سبق الإصرار والترصّد"، ولنا في "المجزرة الوحشية" التي ارتكبت بحق "الإبل" في جنوب استراليا في مطلع هذا العام مثال يبرهن صدق ما نقول، حيث اتهمت عشرة الاف من "الإبل" بتلويث المياه وزيادة حدة الجفاف، ورفع معدّل التعرّض للحرائق، وبهذا اعتمدت السلطات المحلية برنامجاً خاصاً لإدارة "الإبل" بهدف التقليل من أعدادها من خلال القضاء عليها بواسطة رماة محترفين استخداموا "الرصاص الحيّ" من مروحيات خُصصّت لهذا الغرض.
من يتخيّل مشاهدة عملية الإبادة الجماعية "للإبل" التي تمّت بوحشّية وهم يطلقون عليها الرصاص بعشوائية دون رأفة؟ وإذا ما اتهمت "الإبل" حسبما نقلته الصحافة الاسترالية من أنها تتسبب في بث غاز الميثان الضار الذي يسهم في رفع مستوى الاحتباس الحراري وعدّل الحرائق، فماذا بعد أن توصل عُلماء أستراليا بعد أسابيع من هذه الحادثة لاكتشاف تم وصفه بالغريب، فالمتهم الأول في انتشار الحرائق التي التهمت مساحات شاسعة من غابات استراليا هو "طائر الحدأة"، الذي يتنقل بسهولة بين غاباتها فيسهم في تأجيج حرائقها، وليس "الإبل"، هنا نتسائل: هل سينال هذا الطائر ذات العقوبة" التي لحقت "بالإبل" إذا ما تعرضّت أستراليا لنفس الاوضاع في قادم الوقت؟!      
لا يفوتنا هنا الإشارة إلى أن "الإبل" التي تمتاز بهيبة أجسادها، وقدرتها الفائقة على التحرّك بسهولة في الرمال الصحراوية الحارقة، وصبرها على أن تبقى على قيد الحياة دون طعام أو شراب لفترة طويلة، تحظى بمكانة خاصة في ثقافة كل المجتمعات الريفية والبدوية، فما تزال إمكانية الكثير من القبائل تُقدّر بالكم العددي لمجموع "الإبل" الذي تمتلكه، وقديماً كانت "الإبل" تمثّل "الحصص المالية" لمهر العروسة، ورواية صراع الشاعر الجاهلي "عنترة" لأجل الفوز بحبيبته "عبله" عندما وقف "اللون والنسب" عائقاً لتحقيق أمنيته بالزواج من عشيقته ما تزال تُروى في "صالونات" الأدب العربي وقاعات تدريسه، فعمّه الذي فضّل عليه "عمارة بن زياد" غريمه وعدوه اللدود، إشترط عليه مهراً "تعجيزيّاً" لم يكن من السهولة الإيفاء به، ألا أن "عنترة"، وبعد خوضه العديد من المغامرات "أتي بمائة ناقة وسلمّها لعمه"، ومن ثم حقّق بهذا الاعتراف به "كفارس" يستحق الزواج من "عبله". كما كانت "سفينة الصحراء" وهي التسمية التي يطلقها العرب على "الإبل"، حاضرة وقت الأتراح أيضا، فتدفع النوق والجمال ثمناً "لدية" القتل، وورد في الحديث: «لا تسبّوا الإبل فإن فيها رقواء الدم ومهر الكريمة»، وحازت "الإبل" على مساحة كبيرة في الوجدان العربي، فوصفها الشعراء، وضُربت بإسمها الأمثال، ومن بين ما يستحضرني وأنا أدوّن هذه الزاوية المثل الشائع: "لا ناقة لي فيها ولا جمل"، ترميز للإبتعاد عن كل ما من شأنه التدخل في أمور الغير، ويُردّد العرب أيضاً: "استونق الجمل"، ويضرب لصاحب الشهامة والقوة بعدما يُذلّ ويُهان، وهناك الكثير من الدلائل على أهميتها في الكتب السماوية فجاء في الإنجيل: "أن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني ملكوت الله"، وهو ما يوازيه في الاية الكريمة: "وَلَا يَدْخُلُوْنَ الجَنَّةَ حَتّٰى يَلِجَ الْجَمَلُ في سَمِّ الخِيَاط"، وذُكرت "الإبل" في القران الكريم في أكثر من موضع، يقول تعالى: «اَفَلا يَنْظُرُونَ الَى الاِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ». وقد أوصى رسول الله (ص) الاهتمام "بالإبل" والمحافظة عليها بقوله: «إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظَّها من الأرض، وإذا سافرتم في الجدب فأسرعوا عليها السير".
فصل القول: "للإبل" قيمة إقتصادية وإجتماعية وثقافية، "إقتصادياً" هي إحدى ركائز قطاع "الإنتاج الحيواني" والحفاظ عليها قد يسهم في دعم استراتيجات "الأمن الغذائي" الذي تتطلع إلى تحقيقه حكومة السلطنة، فبلادنا ما تزال بحاجة إلى المزيد من "أوزان" اللحوم والألبان الطازجة، و"إجتماعياً" فهي، أي "الإبل"، دائماً ما تكون حاضرة في مناسباتنا الدينية والوطنية والإجتماعية، أما "ثقافياً" فلها في عقيدتنا ووجدان شعرائنا وأدبائنا وساحاتنا الفنيّة نصيبٌ وافر من التقدير، وحتى نضمن "للإبل" مكانتها المرموقة، وتبقى "عزٌ لأهلها"، يتوجّب أولاً على مُلاكّها الاعتناء بها، وإكرامها بعدم إهمالها وتركها "سائبة" تهيج وتميج ثم تتفرّق، ومن أنس تربيتها عليه أن يتأمّل القدرات "الاستثنائية" التي وهبها الله سبحانه، وأن يستذّكر حوادث تذهب ضحيتها أرواحٌ عزيزة علينا، ثم يوصف كمن قصّر في الأمر أو كمن تكلّف أمرٌ لا يحسنه فقيل فيه: "ما هكذا تورد الإبل"!.   

الخميس، 4 يونيو 2020

حان وقت الطبيعة...!

تدوين: يحيى السلماني
تحت شعار "حان وقت الطبيعة"، تُشارك السلطنة صباح اليوم شقيقاتها دول العالم الاحتفاء بيوم البيئة العالمي الذي يصادف الخامس من يونيو من كل عام، وفي تغريدة لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (اليونيب) تم بثّها في مطلع الشهر الجاري تشير إلى أن "الأغذية التي نتناولها، والهواء الذي نتنفسه، والمياه التي نشربها، والمناخ الذي يجعل كوكبنا صالحاً للعيش فيه، كلها تأتي من الطبيعة"، وفي هذه المناسبة الاستثنائية تُرسل فيها الطبيعة لنا رسالة "من أجل أن نعتني بأنفسنا يجب علينا أن نعتني بالطبيعة، لقد حان وقت الاستيقاظ من غفلتنا، لملاحظة الأمور من حولنا، ولرفع أصواتنا، حان الوقت لإعادة البناء بشكل أفضل لصالح الأرض وسكانها".
نعم، لقد حان الوقت للنظر في أوضاعنا الصحيّة والإجتماعية كبشر، كما حان الوقت لتقييم وضع أحوال البيئة المحيطة بنا باعتبارها مصدر حياتنا، فكوكبنا الذي نتنفس هوائه، ونستقي ونرتوي من ماءه، وننعم بخيراته، ما يزال يرزح تحت وطأة التلوث بشتى أنواعه، وتُعاني مختلف موارده الطبيعية من مخاطر التهديدات البشرية التي ليس لها حدّ ولا مدّ، كل ذلك انعكس على حياة الإنسان، والأزمتين الصحية والاقتصادية اللاتي تسبّب بهما  "كورونا" ما تزال تجتاح العالم بأسره، غنيّه وفقيره، فقد وجّه هذا الفيروس الميكروبي تحذيراته إلى مختلف حكومات وشعوب العالم، وبهذا، نرى كما يرى اخرون، بأنه قد وجب على "البشرية أن تتغير".
حسب إنغر أندرسن المديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (اليونيب) فإن "إغلاق الاقتصادات هو استجابة قصيرة المدى لهذا التحذير"، مُضيفة إلى أن "الاقتصادات التي تعمل مع الطبيعة ضرورية لضمان ازدهار دول العالم‘‘. ولدعم الدول في جهودها لمعالجة الآثار الاجتماعية والاقتصادية والبيئية لانتشار هذا الفيروس (الجائحة) سيعمل برنامج الأمم المتحدة للبيئة (اليونيب) مع بقيّة منظومة الأمم المتحدة بهدف "دعم صنّاع القرار" للتعامل مع الارتفاع الكبير في حجم النفايات الخطرة، التي تتضمن معدات الحماية الشخصية والالكترونيات والمستحضرات الصيدلانية، بطريقة مُستدامة لا تضرّ بصحة الإنسان و البيئة المُحيطة به. ولتحقيق ذلك، فقد تم الإنتهاء من وضع "برنامجاً حيوياً للمخاطر والاستجابة" لتحسين قدرة البلدان على الحد من التهديدات من خلال إعداد "مناهج إيجابية للطبيعة"، بما في ذلك رسم "خرائط عالمية جديدة" للمخاطر الناجمة عن الاتجار بالأحياء البريّة غير المنظم، وتجزئة الموائل وفقدان عناصر التنوع الأحيائي (البيولوجي)، إضافة إلى السعي إلى إقناع الجهات الفاعلة في الاقتصاد الفعلي لإعادة بناء الاستهلاك والإنتاج المستدامين، وتوسيع نطاقهما، وخلق "وظائف خضراء" تتوافق مع ظروف المرحلة الانية.
وإستجابة لأزمة "كورونا"، وفي الوقت الذي يتأثر فيه "أكثر من 1.5 مليار مُتعلّم من جراء إغلاق المدارس بسبب هذا الفيروس الميكروبي، وفقًا لتقارير نشرتها مسبقا مُنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، فإن التعليم لن يتوقف، حيثُ تّم الإعلان عن مشروع تعليمي يُعدّ الأول من نوعه بعنوان "مدرسة الأرض"، توفّر هذه المدرسة "محتوى تعليمي مجّاني عالي الجودة لمساعدة الطلاب وأولياء الأمور والمُعلمين حول العالم الذين يمكثون حاليا في بيوتهم، وتتولى هذه المدرسة الإلكترونية التي تتضمن مقاطع فيديو ومواد مقروءة تم ترجمتها إلى عشر لغات إصطحاب جميع الطلاب المنتسبين إليها في "مغامرة" تمتّد ل 30 يوماً يتجولون ويتعرفون من خلالها على أسرار عالم الطبيعة التي يزخر بها كوكبنا، وتسعى هذه المدرسة التي يتطوع للعمل بها ما يقرب من 500.000 مُعلم مُتخصص من جميع أنحاء العالم إلى دعم الطلاب على "استيعاب مفهوم البيئة، والتأمل في الأدوار التي يمكنهم القيام بها ليساهموا مساهمة حقيقية في الحفاظ على مواردها وعناصرها الأحيائية (البيولوجية)".
في مشهد بيئي اخر، التقارير البيئية الحديثة تُشير إلى أن الحفاظ على التنوع الأحيائي (البيولوجي) يعتمد تماماً على "الطريقة التي نتفاعل بها مع غابات العالم وكيفية الاستفادة من مواردها"، وتؤكد اخر الإحصائيات إلى أن العالم قد فقد "حوالي 420 مليون هكتار من الغابات من خلال التحول إلى استخدامات أخرى للأراضي منذ عام 1990م"، وقد زادت أزمة "كوفيد-19 " أهمية الحفاظ على موارد الطبيعة واستخدامها بشكل مستدام من خلال إدراكنا بأن "صحة الناس مرتبطة بصحة النظام البيئي"، ولذا، تقرّ المنظمات البيئية في مختلف دول العالم بأن حماية الغابات أمرٌ في منتهى الأهمية، باعتبار أن الغابات تحتوي على معظم عناصر التنوع الأحيائي (البيولوجي)، وحتى نكون دقيقين أكثر، فأن الغابات، حسب ما تشير إليه الدراسات البيئية، "تحتوي على 60,000 نوع مختلف من الأشجار، و80 % من أنواع البرمائيات، و75 % من أنواع الطيور، و68 % من أنواع الثدييات على الكوكب الذي نعيش عليه ونعتاش من موارده. ألا أن المؤسف، أن موارد هذه الغابات بدأت في الانحسار، والتقييم العالمي لموارد الغابات لعام 2020م الصادر عن منظمة (الفاو) يوضح أن الغابات باتت تفقد "حوالي 10 ملايين هكتار كل عام" بسبب التحول السريع في استخدامات الأراضي بشكل غير مستدام.
ما يؤكّد ذلك التدهور ما خلصت إليه دراسة أجراها المركز العالمي لرصد حفظ الطبيعة التابع لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة أن "ملايين الأشخاص يعتمدون على الغابات كمصدر غذائي امن، فالغابات توفر أكثر من 86 مليون وظيفة خضراء، ويعتمد أكثر من 90 % على الغابات في الغذاء البري أو الحطب أو في جزء من سبل عيشهم، ويتضمن هذا الرقم ثمانية ملايين شخص يعانون من الفقر المدقع ويعتمدون على الغابات في أمريكا اللاتينية وحدها." كما تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى "أن 60٪ من سكان العالم يستخدمون الطب التقليدي (الشعبي)، وفي بعض البلدان يندرج الطب التقليدي (الشعبي) على نطاق واسع ضمن نظام الصحة العمومي"، وتعتبر الغابات هي المصدر الأول لمنتجات هذه الأدوية. 
وهناك من الدراسات البيئية التي تُؤكّد على أن أثر تدهور التنوع الأحيائي (البيولوجي) قد تمتد إلى أبعد من ذلك، فيؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على الصحة النفسية للإنسان، فالتنزه في الطبيعة يُقلّل من أمراض الاكتئاب، ويحدّ من مستوى العصبية والغضب، كما أن توفّر كميّة من الضوء الطبيعي يُعزّز عامل الابتهاج، وكل ذلك ينعكس إيجاباً على الأداء العام لبني البشر، ما يؤكد على ذلك استنتاجات الدراسة التي تبنتها جامعة شيفيلد بالمملكة المتحدة والتي تتلخص في "أن مدى الفوائد النفسية التي يكتسبها البشر من المشي في حديقة عامة مرتبط بمدى التنوع الحيوي فيها". أما فيما يخص المياه، التي جعل الله منها كل شيئ حيّ، فالاحصائيات الصادرة عن الأمم المتحدة صادمة، فهي تؤكّد على أن "ثُلثا سكان العالم يعيشون بدون مياه صالحة للشرب"، ناهيك عن أن نقص مناسيب المياه يتسبّب في اتساع رقعة التصحر، وبالتالي يؤثر مباشرة على مختلف عناصر الطبيعة.     
نحن نُدرك، كما يُدرك الاخرون، أن عام 1972م كان بمثابة "نقطة تحوّل في تطوير السياسات البيئية الدولية"، ففي هذا العام تم تنظيم أول مؤتمر رسمي يناقش قضايا البيئة في مدينة ستوكهولم السويدية، هادفاً إلى "صياغة رؤية أساسية مشتركة حول كيفية مواجهة تحدّي الحفاظ على البيئة البشرية وتعزيزها"، ونتيجة لهذا المؤتمر، اعتمدت الجمعية العامة قرارها بوصف يوم 5 يونيو باليوم العالمي للبيئة، ومنذ الاحتفال الأول بهذه المناسبة في الخامس من يونيو من عام 1974، ساهمت مختلف البرامج التي تم تنفيذها على مدى ما يقرب من خمسين عاماً على تعزيز مستويات الوعي بقضايا البيئة، وتوليد "زخم سياسي" حول المخاوف المتنامية الناتجة عن الممارسات البيئية الخاطئة من بينها على سبيل المثال: ارتفاع معدلات التلوث، واستنفاد طبقة الأوزون، واستخدام المواد الكيميائية السامة، واتساع رقعة التصحر، وزيادة مستويات الاحترار العالمي، وتعّرض عناصر الطبيعة للتدهور إضافة إلى ندرة وجود سياسات مُتزنة لإدارة النفايات والتخلص منها بطرق سليمة.
الأمر الذي لفت نظرنا، والعالم يحتفي هذا العام بهذه المناسبة، أن جلّ المنظمات والمؤسسات المعنية بشؤون صحة الإنسان والبيئة قد انتقلت من مرحلة "التنظير" إلى اتباع برامج عملية "تطبيقية" تستقطب في تنفيذها كبار المختصين والخبراء والمهتمين بشؤون البيئة وشجونها، وبهذا، لم يقتصر إحتفاءها بمثل هذه المناسبات، كما نفعل نحن، على نشر "التقارير الأخبارية" وتنظيم "البرامج الترويجية" التي غالباً ما تكون رسالتها "باهتة" ومحتواها "فارغ"، بل تعدّى ذلك إلى استهداف الشريحة المُستهدفة من خلال تنفيذ برامج توعوية (تطبيقية) تتوافق مع مُعطيات عصر "الفضاء المفتوح"، ونموذج "مدرسة الأرض"، الانفة الذكر، أبسط الأمثلة على ذلك.
 على المستوى الوطني، وحتى نلامس الوجه الحقيقي للوضع البيئي، نجد من الضرورة بمكان التذكير هنا أن هناك ما يزيد على (1295) نوعاً من النباتات تنبت في أراضي السلطنة، منها مايقرب من (136) نوعاً أو فصيلة نباتية مُهدّدة بالانقراض بسبب توسّع النشاط الحضري وانتشار النباتات الغازية (شجرة الغاف البحري التي تنتشر في مختلف محافظات السلطنة كنموذج، لم تتمكن جهات الاختصاص من إستئصالها منذ ما يزيد عن عشرين سنه)، وحسب البيانات الصادرة عن وزارة البيئة والشؤون المناخية، فإن السلطنة تأوي ما يقرب من (546) نوعاً من الطيور (مُقيمة ومُهاجرة)، منها ما هو مُعرّض للتهدديات كالعقاب الأسفح الكبير وملك العقاب والزقزاق والكروان ذو المنقار المستقيم و النورس أبيض العين وغيرها، بسبب سوء استخدامات الأراضي الرطبة وإدخال أنواع غريبة دون الحصول على تراخيص رسمية (مثاله: طائر المينه الإعتيادية الذي ما زالت أجنحة "قضيّته" تُرفرف بين مكاتب المختصين بوزارة البيئة والشؤون المناخية وأروقة مجلس الشورى منذ زمن، حالت "البيروقراطية" دون الوصول إلى حلول علمية للتخلص منه حتى وقت تدوين هذه السطور).
كما أن بيئتنا البحرية تُصنّف كواحدة من أغنى البيئات البحرية في المنطقة، فقد تم تسجيل "أكثر من (1022) نوعاً من الأسماك العظمية والغضروفية، و(525) نوعاً من المحاريات، وأكثر من (20) نوعاً من قنافد البحر و(35) نوعاً من نجوم البحر، و (60) نوعاً من السرطانات البحرية وأكثر من (20) نوعاً من الحيتان والدلافين كحوت العنبر والحوت الأحدب والدولفين وهي من الثدييات البحرية العُمانية المُصنّفة في قائمة الاتحاد العالمي للصون، وتعومُ في بحار السلطنة خمسة أنواع من السلاحف البحرية، هذا ناهيك عن أنه قد تم رصد أكثر من (130) نوعاً من الشعب المُرجانية، والتي تُشكّل مناطق جذب وتجمّع للعديد من الكائنات البحرية، وهي، أي الشعاب المرجانية، أضحت تتعرّض للإنتهاكات بواسطة الشباك ومصائد الأسماك التي تُرمى بعشوائية في عرض البحر، ناهيك عن تراكم المخلفات السائلة والصلبة التي أدّت بشكل مباشر أو غير مباشر إلى إنهاك مستوطنات الشعاب المرجانية في مختلف أرجاء السلطنة، وقد شهدتُ بأمّ عيني، أثناء ممارستي لرياضة الغوص، حجم وكميات شباك الصيد والنفايات البلاستيكية التي تُعكر صفو الأحياء البحرية بمحمية جزر الديمانيات الواقعة بين مسقط وبركاء.
وحسب الإحصائيات الصادرة عن وزارة البيئة والشؤون المناخية تحتضن السلطنة حوالي (99) نوعاً من الثدييات البرّية، من بينها ما هو معرّض للإنقراض كالنمر العربي والمها العربي والوعل العربي والغزال العربي وغزال الريم والوعل النوبي وأرنب مصيره والوشق والضبع المخطط والثعلب الرملي، وهي جميعها تمثل أمام تهديدات بشرية بسبب ممارسات الصيد الجائر والتهريب المتعمّد إلى خارج السلطنة، وما قام به ثلاثة من المواطنين، قبيل أمس (الأربعاء)، من اصطياد غزلان عربية بولاية سدح بمحافظة ظفار أقرب دليل قاطع على صدق ما نقول، علماً بأن عملية صيد مماثلة قد حدثت في منتصف إبريل الماضي بمحافظة شمال الشرقية، وهذه الانتهاكات يتكرر حدوثها على مدار العام، وقد وجهنّا في وقت سابق كلمة شُكر لجميع "مُراقبي الحياة الفطرية" تقديراً لجهودهم الهادفة إلى حماية عناصرنا الأحيائية. 
وبما أن الطبيعة هي محور الحديث في مناسبة هذا العام، فأنه لا بدّ من  الاشارة إلى وضع الغطاء النباتي الذي تتردى حالته بسبب ممارسة الرعي الجائر، ولنا في محافظة ظفار خير مثال، حيث تؤكد الاستراتيجية الوطنية لحماية البيئة بالسلطنة بتناقص "مساحة الغابات الطبيعية في ريف ظفار إلى خمسة وثلاثين ألف هكتار، بما يُقدّر بنحو (140) مليون شجرة، كما أن غابات الريف الظفاري تتدهور بما نسبته 7% سنوياً، الأمر الذي يعني خسارة نحو 80% من مساحة الغابات التي كانت موجودة في جبال ظفار قبل 22 عاماً". هذا يعني، حسب ما صرح به الدكتور محاد بن عيسى شماس، أحد الخبراء المختصين بشؤن البيئة بالسلطنة، أن هذه المساحة "تقلصت حالياً إلى (10) آلاف هكتار بما يقدر بنحو (40) مليون شجرة محلية، وهو ما يشير إلى أن الحكومة لم تتخذ أية إجراءات تصحيحية حقيقية لحماية الغابات من الرعي الجائر وتوسع النشاط العمراني في جبال ظفار، حيث تحوّل مئات الهكتارات من مساحة المراعي والغابات الطبيعية إلى استخدامات سكنية وبنى تحتية، فحسب الدراسات التي قام بها تؤكد بأنه "قد تم تقطيع عشرات الالاف من الهكتارات، ولم يتبق من الغابات المحلية حالياً سوى نسبة 20% من الأشجار التي كانت موجودة آنذاك! وقد أوصت الدراسة التي قام بها الدكتور محاد بإيجاد حلول مستدامة تتمثل في "إنشاء هيئة لسن التشريعات اللازمة لحماية وإدارة واستخدام الغابات الوطنية، والعمل على استعادتها وتنميتها وصولاً لاستدامة المناطق الغابوية، وإنشاء هيئة تسويق الماشية للتقليل من عمليات الرعي الجائر بهدف العودة لأعداد الماشية كما كانت قبل أكثر من ثلاثة عقود"، ألا أن هذه التوصيات لم تجد اذان صاغية حتى الان.
بعد هذا العرض، ونحن نحتفي بهذا اليوم، يحقُ لنا أن نتسائل: ما المانع من تنمية مواردنا الطبيعية التي تتمتّع بها بلادنا لنتمكن من تنمية القطاعين الزراعي والسمكي، وهو ما سيكفل نسبة من "الاكتفاء الذاتي"، بدلاً من الاعتماد على سياسات الاستيراد المُتبّعة، وقد أطلنا الحديث عن هذا الموضوع في أكثر من مناسبة. كما لا تفوتنا الإشارة هنا أيضا إلى: أنه بالرغم من ثراء موائلنا الطبيعية بعناصرها الأحيائية الفريدة، وبالرغم من توافر الإمكانيات التقنية واستعداد الكفاءات الوطنية على بذل قصارى الجهد للرقيّ بقطاع البيئة، فما نزال، بكل أسى وأسف، نتشبّث بذات الطرق "البالية" واتباع ذات الأساليب "التقليدية" التي عهدناها منذ عقود، التي لا تتعدى حدود تنظيم حملات لنظافة الشواطئ والأودية، وإقامة المعارض البيئية، وهي برامج تبدو "عقيمة" شكلاً ومضموناً، نرى بأنه قد "أكل عليها الزمان وشرب"، وباتت صلاحية العمل بها مُنتهية، لذا "فقد حان الوقت" أن يستيقظ أصحاب القرار بمؤسساتنا من "غفلتهم"، وتوجّب عليهم النظر وبجديّة في الاستفادة من خبرات كفاءاتنا الوطنية، والتوجّه نحو نقل التجارب الحديثة والمُجدية للدول الشقيقة والصديقة وتطبيقها بما يتوافق مع السياسات والاستراتيجيات البيئية المُعتمدة بالسلطنة، وبهذا وحده نتمكن من استثمار مثل هذه المناسبات البيئية السنوية للإرتقاء بمستويات الوعي البيئي لدى مختلف فئات المجتمع وشرائحه، وهو ما سيؤثّر، بدون أدنى شك، إيجاباً على وضع بيئتنا التي باتت تئن تحت وطأة التوسع الحضري، والتواطؤ البشري، كما سيسهم في حفظ عناصر موادرها الأحيائية (البيولوجية) خصوصاً تلك التي بدأت تعاني من التدهور والإنقراض، نقول كُل ذلك لأن "وقت الطبيعة قد حان"، والأمر لا يحتمل التسويف والتأجيل، وكل عام وبيئتنا بألف خير...!  



خور الملح موطن الذهب الأبيض

  تدوين: يحيى السلماني مع بداية فصل الصيف التي تمتد من مايو حتى شهر أكتوبر تنشط وتيرة انتاج الملح بالطريقة التقليدية في ولاية قريات. وبنهاية...