قراءة
وتدوين: يحيى السلماني
يقول
عبقري الرواية العربية، الأديب الطيّب صالح: "حين تُعيد قراءة كتاب تمتّعت به
في حينه، فكأنك لقيت صديقاً غاب عنك زمناً..".
في
وقت سابق (2005م) قرأت سيرة المناضل السياسي نيلسون مانديلا، وبقي جزء كبير من
أحداث سيرته مُلتصقة بذاكرتي لفترة طويلة، ألا أن بعض تفاصيل الملحمة النضالية
بدأت، مع مرور الزمن، تتلاشى من الذاكرة شيئا فشيئا، عندها عزمت إعادة قراءتها بتمعّن
أكثر، خصوصاً وأن العالم يتابع اليوم قصة القتل المُتعمّد التي تعرّض لها المُواطن
الأمريكي "جورج فلويد"، والتي تؤكد على أن أساليب العنف والعنصرية ما تزال
متفشيّة وتُمارس بلا هواده، لا سيّما في أميريكا التي تستضيف موانئها أكبر رموز الحريّة وأشهرها في العالم،
وتُداوم على مناشدة المجتمع الدولي باحترام حرية الحقوق الفردية، وبهذا، اثرت هذه
المرة أن أدوّن قرائتي لأحد ممن أفنوا حياتهم ضد العنصرية.
إن
المُطّلع على تاريخ المجتمعات قد تستوقفه الكثير من المواقف ليستلهم منها الدروس والعبر،
وسيولج في نهاية المطاف برؤية مفادها: أن رغبة الإنسان في تحرير نفسه من القيود (سياسية
كانت أم إجتماعية) قيمة إنسانية ينشدها جميع من يطمح في أن يعيش على هذه البسيطة
بكرامة، ولكن، هل يمكن لقيم التحرر والاستقلال أن تتحقق محض الصدفة وبدون وجود عزيمة
صادقة وإرادة قوية؟ وإن توافرت معطيات العزيمة والإرادة، هل سيجني صاحبها ثمرة ذلك
دون تقديم أية تضحيات؟!
الروايات
القديمة، تحكي قصصا عديدة عن أن الإنسان قد قدّم تضحيات "إستثنائية" في
سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية لمجتمع بأكمله، فعندما تحوّل النظام السياسي للحكم
في أثينا القديمة إلى "نظام
فوضوي" يسيطر عليه "الرعاع" باسم الاستحقاق الديمقراطي والمواطنة
الحرّة، ثار الفيلسوف "سقراط" على ذلك الوضع، فأصدرت المحكمة العليا
"الديكاستيرا" حكمها عليه بالإعدام لأنه "إصلاحي ويفسد أفكار الشباب بشكل خاص" من خلال نقده لنظام الحكم من جهة وآلهة
اليونان التي ينسب لها "العصمة" من جهة أخرى. وكما جرت العادة، فهناك "استئناف" مسموح به للمحكوم عليهم قبل
تجرّعهم كؤوس السم، وقد حاول "كريتو" المكلّف بإعداد السمّ لسقراط دفع "سقراط"
لالتماس الاستئناف، غير أنّ "سقراط" قد رأى في طلبه الاستئناف
"اعترافاً بشرعية نظام حكم الرعاع" في "الديكاستيرا" فرفض ذلك،
وتجرّع الُسمّ لأنه كان يعي أن التضحية بروحه هي المخرج الوحيد لحلحلة تلك الأزمة.
مُذكرات
نيلسون مانديلا الذي رفض حياة التبعية والذل والإهانة والقهر والاستبداد منذ نعومة
أظافره، فعزم، بإرادة صلبة، على تجاوزها تارة بطرق سلمية لعبت الدوبلوماسية فيها
الدور الأكبر، وتارة أخرى أضطر فيها إلى مُقابلة العنف بالعنف، عاملاً بمبدأ "لا
يفلّ الحديد إلا الحديد"، مُتخذاً من حكمة ما كان يتغنى به عنترة بن شدّاد: "وإذا
أُبتليت بظالم كن ظالماً" مثله الأعلى، لكنه لم يُفلح في كلا الحالتين، وهو ما
أودى به أن يقضى ثلث حياته وراء القضبان، فزُج به في غياهب السجون، وأُبعد عن
أسرته، وغُيّب عن فلذات أكباده، ثم أُهينت معاملته، وحُكم عليه بالأعمال الشاقة، وسيرته
التي دونّها في كتابه "رحلة طويلة من أجل الحرية"، تحكي شواهد حقيقية
لمسار نضاله.
من
أراد أن يستوعب حجم المعاناة الإنسانية التي تعرّض لها هذا المناضل، لابدّ له أولاً
من استقراء تاريخ "الجغرافيا السياسية" لجمهورية جنوب أفريقيا التي وُلد
ونشأ فيها نيلسون مانديلا. بالمختصر، تُشير المصادر التاريخية، أن جنوب أفريقيا تُعدّ
إحدى أغنى بلدان العالم بثرواتها الطبيعية ومناجمها "المُكتنزة" بالمعادن
النفيسة، ومنذ أن تمكّن البحارة البرتغاليون إكتشاف أهميتها الإقتصادية في القرن
السادس عشر، تزايد عدد الراغبين من البرتغاليين والهولنديين والفرنسيين والإنجليز
في إقامة مزارع في ساحات شاسعة من الأراضي الخصبة، فسبروا أغوارها ثم توغلّوا في
غاباتها المليئة بالثروات الطبيعية (أحيائية وجيولوجية)، وليتمكنوا من الوصول إلى
مبتغاهم، أستخدم الأوروبيون "العربات الخشبية" التي تجرّها الخيول، حاملين
بعض البنادق التقليدية، فأطلقوا النار على السكان الأصليين البُسطاء الذين كانوا
يعملون في قطاعي الفلاحة والرعي.
ثم
ما فتئت أن تشتد المنافسة بين هؤلاء المُستكشفين الغُزاة، ففي عام 1957 قررّت
بريطانيا امتلاك (كاب تاون) حتى تستحوذ على الطريق البحري إلى الهند، وبه تتمكن من
منع جيرانهم الفرنسيين من الوصول إليها، ألا أن البريطانيين واجهوا مقاومة شرسة من
"البوير" الأفارقة، على إثر ذلك، أقيمت أربع جمهوريات منها تأسيس جمهورية
"جنوب أفريقيا"، ثم وُقعّت مُعاهدة صلح بين البريطانيين والأفارقة، ألا
أن هذه المعاهدة "لم تعترف إلا بحقوق البيض فقط، وبقي 80% من السكان الأصليين
بدون أية حقوق سياسية أو إقتصادية"، ففي الوقت الذي كانت فيه "جنوب
أفريقيا تنتج ثلث ذهب العالم بجهد وعرق الأفارقة السود الذين كانوا يعملون في
المناجم ليل نهار دون حصولهم على أية إمتيازات"، إنطلقت شرارة التمرد من أجل
الحصول على أدنى مستوى من "المكتسبات السياسة والاقتصادية"، وعلى إثر
ذلك تأسس على يد "جون دوبي" في عام 1912م حزب "المؤتمر الوطني
الأفريقي"، وهو ذات الحزب الذي إنتسب إليه نيلسون مانديلا بعد ما يقرب من ربع
قرن.
وكما نتداول نحن القول السائر: "إسم على مسمّى"، فإن "روليهلاهلا"،
هو اللقب الذي أطلقه والده عليه عندما كان طفلا، ويعني في لغة
"الكوسكا": "المُشاغب"، وفي
هذا يتسائل نيلسون مانديلا: "هل تكهّن أبي بمستقبلي يوم وُلدت؟"، وهل
إسم أي مولود يحدّد مواصفات شخصيته في مستقبل مسار حياته؟ لكنه من أين أتى بإسمه
الجديد الذي أشتهر به؟ وُلد نيلسون مانديلا في 18 يوليو عام 1918، في قرية صغيرة
تسمى "مفيتزو" تستلقي على ضفاف نهر "إمباشي" إحدى ضواحي إقليم
"ترانسكاي" الذي يبعد ثمانمائة كيلومترا شرقي مدينة "كيب
تاون" في جنوب افريقيا. وبعد أن عجز أساتذته البيض عن نطق إسمه الحقيقي، سُمِّيَ
في مدرسة الإرسالية الابتدائية "نيلسون".توفي والده وهو في التاسعة من
العمر، فانتقل إلى العيش مع حاكم شعب "ثامبو" جونجينتابا داليندييبو،
الذي كفله رداً لجميل والده الذي زكاه رئيسا لقبيلة "ثامبو" قبل سنوات
من ذلك. عاش نيلسون مانديلا طفولته كبقية الأطفال الأفارقة
القلائل الذين استطاعوا دخول المدرسة الابتدائية، فأكمل دراسته بمدارس الإرسالية،
وسجل نجاحا وتفوقا ملحوظا في دراسته، ثم التحق بكلية فورت هاري.
أدرك
نيلسون ما نديلا، عندما كبر: "أن العامل الأساسي في صياغة شخصية الإنسان هو
تنشئته وليس طبيعته التي ورثها". فكان والده، الذي نُصّب زعيماً للقرية على
يد ملك التيمبو، يجنح إلى التمرد والاعتزاز بالنفس، كما كان مُتشدّداً في فهمه
للعدل والظلم، وبهذا فالمُتبصّر في سيرته، يجد أن نضاله الشخصي يعد استكمالا لنضال من
سبقوه من أبناء جلدته، يُوثّق نيلسون ذلك في مذكراته اليومية قائلا: "بينما
كان والدي يروي لنا قصص المعارك التاريخية وبطولات قدماء المحاربين من أبناء "الكوسا"،
كانت أمي تتغنى بأساطير "الكوسا" وملاحمهم وأساطيرهم التي تعود إلى
أجيال غابرة، وكانت تلك القصص تُثير خيالي الغضّ لما كانت تحمله من مغاز عميقة
ومتنوعة". ويرى ممن يتعاطفون مع سيرته الذاتية، أن نضاله ليس سوى استمرار
لنضال أبيه الذي وقف في وجه الحاكم الذي طلب حضوره بسبب خلاف على الماشية قائلا:
"لن أحضر لأنني أتوشّح سيفي استعدادا للمعركة، أراد والدي بجوابه ذاك أن
يبّين أنه ليس للحاكم المحلي سلطان شرعي عليه وبأنّه في الشؤون القبيلية لا يلتزم
بقوانين ملك إنكلترا ولكن بتقاليد التيمبو وأعرافهم".
حظي
نيلسون مانديلا ببصيرة قوية، فلم تكن مواقف حياته عابرة، بل كانت تمثل له دروساً
إنسانية استثنائة، كما لم تكن التنشئة الاجتماعية والدراسة الاكاديمية وحدهما من
استسقى منهما المنفعة الحياتية، بل نتلمس من سيرته أن في مرحلة طفولته تعلّم من "الحمار"،
هذه الدابة التي نصفها نحن بالغباء، درساً هاماً في كيفية التعامل والتواصل مع
بني جنسه، يُشير في هذا الصدد إلى قصته مع "الحمار" الذي ركله:
"وبعد أن أهانني الحمار أدركت أن إهانة الآخرين معاناة لا داعي لها، وتعلمت
منذ صغري أن أنتصر على خصومي ولكن دون الإساءة إلى كراماتهم...."، كان يدرك
تمام الإدراك بأن معركته مع عدوه هي معركة إنسانية وأخلاقية بالدرجة الأولى.
تُوفى
والده وهو مايزال فى عامه التاسع، ثم عاش مع الوصى "جونجينتابا"، الذي
قرّر تربيته إكراماً لعلاقته الطيبة مع أبيه، في العشرينات من عمره، شارك نيلسون
مانديلا في أنشطة الحركة المناهضة للفصل العنصري، ثم في عام 1942 م انضم إلى
المؤتمر الوطني الافريقي، ثم ساهم في تفعيل الحملة السلمية "غير
العنيفة" ضد السياسات العنصرية لحكومة جنوب افريقيا. وبسبب وقوفه بجانب
الطلاب ومطالبته بالمساواة تم فصله من الكلية، وهو ما أثار حفيظة أبيه الذي تبناه،
ولكي يكبح أبيه جماحه، إختار له أحد بنات القبيلة ليزوجه، عندها ترك نيلسون
مانديلا المنزل ليبعد نفسه عن قوانين القبلية
التي رأى أنها تحاصره، وعاش عازباً في مدينة جوهانسبرغ، حيث كان يكدح لتوفير لقمة
العيش، ثم أنهى دراساته الجامعية بها.
وتجاوزاً
للمواقف المُثيرة للضحك التي واجهت نيلسون مانديلا في مدينة جوهانسبرح بسبب ريفيته
وفقره، أصبح مانديلا ناشطاً فاعلاً في الحركة المناهضة للفصل العنصري، فأنضم إلى
حزب المؤتمر الوطني الافريقي في عام 1942 . وفي عام 1949، بدأ المؤتمر الوطني
الافريقي رسميا بداية المقاطعة والإضراب والعصيان المدني وعدم التعاون مع أهداف
سياسة المواطنة الكاملة، وإعادة توزيع الاراضي والحقوق النقابية، والتعليم المجاني
والإلزامي لجميع الاطفال. يقول مانديلا: "لا أستطيع أن أحدّد بدقة اللحظة
التي تحولت فيها إلى السياسة، وأيقنت بأنني سأكرس بقية حياتي للنضال من أجل
التحرير، فأن يكون المرء أفريقياً في جنوب أفريقيا يعني أنه يولد مسيّساً، سواء
أقرّ بذلك أم لم يقرّ، فالأفريقي يُولد في مستشفى خاص بالأفريقيين فقط، وتقلّه إلى
البيت حافلة مُخصّصة للأفريقيين فقط، ويسكن في حيّ مُخصص للأفريقيين فقط، ويتلقّى
التعليم – إن تلقّاه – في مدارس للأفريقيين وحدهم...ويركب وسائل نقل مُخصصة
للأفريقيين فقط، وهو مُعّرض للمسائلة عن بطاقته وهويته في أيّ ساعة، وإن لم يبرزها
يُعتقل ويُزجّ به في الحبس، إن حياة الأفريقي كلها مُكبّلة بالقوانين والأنظمة العنصرية
التي تعوق نموّه وتُبدّد إمكانياته، وتُشلّ حياته...". ويقول ما نديلا:
"كان الأفريقيون في حاجة ماسّة إلى مساندة القانون عند استخدام المباني
الحكومية، فقد كان الدخول من الباب المُخصص للبيض فقط جريمه، وكان ركوب الحافلة
العامة الخاصة بالبيض فقط جريمة، وكان الشرب من الحنفية المخصصة للبيض جريمة، وكان
المشي على شط البحر المُخصص للبيض جريمة، وكان الخروج إلى الشوارع بعد الحادية عشر
ليلا جريمة... كانت البطالة جريمة، والعمل في وظائف معينة جريمة، وكانت الإقامة في
أماكن محددة جريمة، والتشرد جريمة"، وقد كان الهدف من كل ذلك هو ترسيخ سيادة
البيض إلى الأبد. ويضيف: "لم تظهر أمامي علامة في السماء، ولم أتلق وحياً،
ولم ألهم الحقيقة في لحظة معينة، ولكنها الاف الاستخفافات والاف الإهانات والاف
اللحظات المنسيّة تجمّعت لتُثير في نفسي ذلك الغضب وروح التمرد والرغبة في مناهضة
النظام الذي عزل قومي واستعبدهم...".
في
ظل هذا الوضع "المُهين"، شهد عام 1946 م أكبر إضراب من نوعه في تاريخ
جنوب أفريقيا، حيث أضرب ما يقرب من سبعون من عُمّال المناجم لمدة أسبوع، ولكن
الإضراب قُمع، وانتصرت سلطة الدولة في نهاية المطاف، كما أثار "قانون حيازة الأراضي
الخاص بالاسيويين" الذي حدّ من حركة الهنود ورسم حدود المناطق المسموح لهم
بالعيش والتجارة داخلها، وقيّد من حقوقهم في شراء العقار، جرّت نيلسون مانديلا إلى
إعادة صياغة المنهج الذي سيتعامل به مع هكذا أحداث. وخلال الحراك السياسي المناهض
للعنصرية، أسّس نيلسون مانديلا مع صديقه "أوليفر تامبو" مكتباً للمحاماة،
كان الأول من نوعه انذاك، حيث لم يكن يسمح للأفارقة السود بذلك، قدّم المكتب إستشارات
قانونية بتكلفة تتناسب مع الدخل العام للأفارقة السود، كما أن في كثير من الأحيان
يراعي المكتب ظروف المدعي فتقدم لهم الاستشارة القانونية مجانا.
يقول
نيلسون: "كنا نستقبل أسبوعيا رجالا كبار في السن من الأرياف طُردوا من أراض
جرداء ظل أباءهم وأجدادهم يحرثونها ويزرعونها على مدى أجيال، وكنّا نستقبل أسبوعيا
سيدات تقدمت بهن السن كن يعملن في عصر البيرة ليجدن ما يعلن به أسرهن ثم أصبحن
معرضات للسجن ودفع غرامات ليس بمقدورهن دفعها، واستقبلنا أناسا عاشوا في بيت واحد
لمدة عقود ثم أصبح بين عشية وضحاها في منطقة للبيض وبات عليهم مغادرته بدون الحصول
على أي تعويضات....". ألا أن الحكومة
لم يرق لها هذا الحراك السلمي الذي يقف ضد سياساتها، وبهذا وفي عام 1956 أُلقي
القبض على نيلسون مانديلا و150 من المنتمين للحراك بتهمة التحريض على مقاومة
قوانين التمييز العنصري، فصدر حكم بسجنه مع وقف التنفيذ، ومُنِع من مغادرة مدينة جوهانسبرغ
لمدة ستة أشهر، في هذه الأثناء، عزم نيلسون مانديلا استثمار الوقت بإعداد استراتيجية
تدعم حركة المقاومة، وهي استراتيجية خلصت إلى ضرورة تحويل فروع الحزب إلى خلايا
للمقاومة السرية.
هذا
المنعطف، جّر إلى حدوث مذبحة "شاريفيل" سنة 1960 ، التي أطلق فيها رجال
الشرطة النار على المتظاهرين، فأودت بحياة المئات من الأفارقة السود، ثم إثر ذلك
الحدث، حظرت السلطات كافة نشاطات حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، واعتُقِل عل إثر
ذلك نيلسون مانديلا. وبعد الإفراج عنه سنة 1961 قاد المقاومة السرية،
وسافر سّراً إلى عدة دول أفريقية، منها أثيوبيا، ودول شمال أفريقيا والسودان وبريطانيا
وغيرها، ولطالما سخر مانديلا من عدم كفاءة الشرطة في ملاحقته، حيث
تمكن من تفادي الوقوع في فخ رجال الأمن عدة مرات، كانت إحداها، والوصف على لسان
مانديلا: "عندما وقفت بسيارتي عند إشارة المرور في وسط المدينة، التفت فرأيت
في السيارة المجاورة العقيد "سبينغلر" رئيس قسم الأمن، الذي يعتبرني
صيدا ثمينا يتمنى لو وقعت عليه يداه، كنت أرتدي قبعة عامل وبزة ميكانيكي زرقاء
ونظارتي المعتادة، لم يدر بصره نحوي، ورغم ذلك فقد مرت الثواني ريثما تغيرت
الإشارة الحمراء وكأنها ساعات..".
وعن
الطريقة التي كان يتبعّها في التخفّي يقول مانديلا: "كُنت أحرص على أن أظهر
رثّ الهيئة بقدر المستطاع، وكانت ملابسي تبدو مهلهلة"، وبحكم مهارته العالية
في التخفّي، لقّبته الصحافة الدولية ب"زهرة الربيع السوداء" (Black Primpernel ) وهو تحريف للقب بطل رواية "البارونه أوركزي" المشهور
بإسم زهرة الربيع القرمزية (Scarlet
Pimpernel ) الذي أظهر
جرأة فائقة في تجنب الوقوع في يد العدو إبان الثورة الفرنسية، وهذه الزهرة، كما
تشير المصادر، هي "زهرة تنقبض عند سوء الأحوال الجوية، وظهور الغيوم أو نزول
المطر، ويرمز بها لمن يتقن فن تفادي الخطر والتخفي من العدو، وأصبحت الزهرة
القرمزية رمزا للشخص المراوغ الشجاع الذي يظهر مهارة عالية في العمل السرّي".
لم
يكن الحراك السلمي مجديا، فكرامة الأفريقي الأسود مهانة بشتى الأساليب، عندها قرر
حزب المؤتمر الوطني توجب المعاملة بالمثل، ومواجهة عنف الدولة بعنف معاكس من حركة
المقاومة. يقول مانديلا في مذكراته: "كانت تلك خطوة حاسمة في تاريخ الحزب
الذي ظل خمسين عاما يعتبر العمل السلمي ونبذ العنف من صميم سياسته بلا جدال أو
نقاش". الأهم ما في الأمر، أن مهمة تنظيم القوى المسلحة أوكلت إلى نيلسون
مانديلا الذي يجهل أبجديات التسلح، فهو لم يخض حربا ولم يطلق رصاصة واحدة في وجه
عدو. يقول واصفا مهمته: "إنها مهمة هائلة ينوء بحملها أعتى الجنرالات ناهيك
عن مبتدئ مثلي". من هنا نشأت منظمة (أمكا) وتعني "رمح الأمة"، وقد
أختير الرمح لأنه يحمل دلالة لنوعية السلاح الذي واجه به الأفريقيون الغزاة البيض
عدة قرون.
وإيمانا
من نيلسون مانديلا بأن الحرية لا تتحقق إلا بتحمّل المشاق والتضحيات والمواجهة
والتحدي، واصل نضاله من أجل الحرية حتى الموت، ففي ذكرى يوم الحرية، 26 يونيو
1961م، أصدر مانديلا بيانا للصحف من مخبأه قال فيه: "علمت بصدور أمر القبض
عليّ.... لقد فضّلت السبيل الأصعب والأخطر بكل مشاقه وتبعاته على الجلوس في داخل
السجن، هجرت زوجتي وأطفالي وأمي وأخواتي لأعيش داخل وطني مُطارداً من قبل القانون،
وسأحارب هذه الحكومة معكم جنبا إلى جنب، وشبراً بشبر حتى النصر.... لن أغادر جنوب
أفريقيا ولن أستسلم". ألا أن اختفاءه وتنقله في مختلف أنحاء جنوب أقريقيا لم
يدم طويلا، ثم أعتقل بعد عودته بتهمة مغادرة البلاد بطريقة غير قانونية، والتحريض
على الإضرابات وأعمال العنف. وفي هذه الظروف، يصف حالته في المحاكمة بالقول
"أثناء محاكمتي دخلت قاعة المحكمة بملابس الكوسا المصنوعة من جلد النمر، وقد
اخترت هذا الزى لأُبْرِزَ المعنى الرمزي لكوني رجلاً أفريقياً يحاكم في محكمة
للرجل الأبيض، وكنت أحمل على كتفي تاريخ قومي وثقافاتهم، وكنت على يقين أن ظهوري
بذلك الزى سيخيف السلطة من ثقافة أفريقيا وحضارتها".
حُكم
عليه بالسجن خمس سنوات، وقبل أن ينهيها صدر عليه حكم بالسجن المؤبد سنة 1964،
فكانت بداية جديدة لرحلة نضاله التي استمرت أكثر من ربع قرن، تحول خلالها مانديلا
إلى أيقونة الحرية والتضحية من أجل كرامة الوطن. خلال السنوات التي قضاها في سجن بجزيرة "روبن"، عرضت عليه
السلطات تغيير توجهاته السياسية مقابل الإفراج عنه، ألا أن مانديلا رفض ذلك العرض
رفضاً قاطعاً، وهو ما نتج عنه إطلاق سراحه سنة 1990. وبعد 27 عاما قضاها مانديلا
في غياهب السجون، أصبحت صورته تتصدر الصفحات الأولى في الصحف العالمية التي وصفته
بأنه "رمزاً دولياً لمكافحة الأنظمة القمعية والعنصرية في العالم"، وقد
كان للتغطيات الصحفية أثراً كبيراً في تعاطف المجتمع الدولي لقضيتة. وبعد الإفراج
عنه أعلن وقف الكفاح المسلح وقاد المفاوضات مع رئيس جنوب أفريقيا الأبيض "فريدريك
ويليام ديكليرك" لإنهاء التمييز العنصري، وتحقيق طموحه الذي عبّر عنه في
كتابه "رحلتي الطويلة في طريق الحرية" قائلاً: "عندما خرجت من
السجن كانت مهمتي تتمثل في تحرير الظالم والمظلوم معا".
في
عام 1991 م، انُتخب نيلسون مانديلا رئيساً للمؤتمر الوطني الافريقي، مع صديق عمره
وزميله "أوليفر تامبو" الذي تولى وقتها منصب الرئيس الوطني، وواصل
نيلسون مانديلا التفاوض مع الرئيس "دي كليرك" لإجراء أول انتخابات مُتعددة
الاعراق في البلاد، وفي عام 1993م، تم منح نيلسون مانديلا والرئيس دي كليرك جائزة "نوبل
للسلام" تقديراً لجهودهم التي نجحت في تفكيك نظام الفصل العنصري، وفي 27 إبريل
1994م، نُظمّت أول انتخابات ديمقراطية، وانُتخب على إثرها نيلسون مانديلا كأول
رئيس "أسود" للبلاد في 10 مايو 1994م، عن عمر يُناهز 77 عاماً ، وكان "دي
كليرك" نائبا له .
ومن
يستطلع سيرته الذاتية، يجد أن مانديلا لم ينسب كل هذه النجاحات لنفسه، ولم يكتبها بإسمه
فقط، بل ذكر قائمة طويلة من أسماء الذين شاركوه النضال، وضحّوا ب"أموالهم
وأنفسهم" لنصرة قضيتهم، ولعل أفضل اللحظات نُبلاً وإنسانية ووفاء عندما تنقل
له زوجته خبر وفاة رفيق دربه المحامي "برام فيشر"، فيفضفض بعبارات الحزن
والشفقة: "مهما عانيت أنا في سبيل الحرية، فقد كنت أستمدّ قوّتي من أنني أُناضل
إلى جانب قومي ومن أجلهم، أما "برام فيشر" فقد كان إنساناً حُراً حارب
قومه لضمان حرية الآخرين". والمُتتبع لسيرة نيلسون مانديلا، يجد أن أقسى لحظة
عايشها عندما كان في منفاه بجزيرة روبن هو تلقّيه لخبر وفاة والدته وإبنه، يتسائل
بحرقة: "هل كان اختياري وتقديم مصلحة الآخرين على مصلحتي الشخصية ومصلحة
أسرتي اختياراً صائباً؟". وفي ذات الصدد يبدو أن مانديلا قد أجاب على سؤاله هذا
بنفسه حينما أشار في محتوى مذكراته: "إن الحرية لا تقبل التجزئة... لأن
القيود التي تُكّبل شخصاً واحداً في بلادي إنما هي قيوداً تُكّبل أبناء وطني
أجمعين"، وهو ما يؤكّد على أن أبناء جنوب أفريقيا "كالجسد الواحد"
وإن تباينت ثقافاتهم وانتماءاتهم السياسية و العرقية، فالضرر بأي منهم يعني الضرر
بالجميع.
إعتزل
مانديلا السياسة قبل موعد الانتخابات العامة لعام 1999م، ألا أنه واصل مبادراته
الإنسانية (التطوعيّة)، فجمع الأموال لبناء المدارس والعيادات في قلب الريف الأفريقي،
كما قام بدور الوسيط في الحرب الاهلية في بوروندي، ألا أن الامور لم تستمر كثيراً
بعد أن أُكتشف بأنه مصاب بمرض السرطان، وبهذا وفي شهر يونيو من عام 2004م، عن عمر
يناهز ال 85 تقاعد رسميا من الحياة العامة، وعاد إلى قريته "قونو" في جنوب
جوهانسبرج، وفي الخامس من ديسمبر 2013م، وعن عمر يناهز ال 95 عاماً ، توفي نيلسون
مانديلا في منزله، وحضر جنازته رؤساء دول العالم، ثم أعلن يوم 18 يوليو "يوم
مانديلا" تعزيزاً لجهوده الداعية إلى تعزيز تقافة الحريّة والسلام الدولي.
يتبّين مما سبق، أن تاريخ العنصرية وقمع الحريات
موغلٌ في القدم، فكما عانى "سقراط" عانى الأفارقة من ذوي البشرة
"الداكنة"، وما تتناقله وسائل الإعلام اليوم لمشاهد المظاهرات في أوروبا وأمريكا ما هو إلا إمتداد لثورات سابقه، وكما عانى الأفارقة السمر، عاني أيضا "اليابانيون"
خصوصاً بعد الأحداث الشهيرة ل"بيرل هابر" في عام 1941م، ولم يسلم سكان
أستراليا الأصليين (الأبورجيون) والهنود من مختلف أنواع القمع الاجتماعي والسياسي،
أما ما تعانيه المجتمعات "المُسلمة" من ممارسات "ممقوتة" منذ
قرون فهو أمرٌ لا يحتاج إلى كثير من الشرح والتمحيص، وتكفينا الإشارة هنا إلى أن مُعاناتهم
اليومية، من افات المُستعمر التي تُمارس على مرأى ومسمع من الجميع بأشكالها
المختلفة قد يُفضي إلى ما دونّه "مانديلا" بقوله: "عندما يبدأ الماء
بالغليان فمن الحماقة إطفاء الحرارة"،
هذه
بعض من "الوقفات" في حياة المُناضل نيلسون مانديلا، وسيرته تصدّق المقولة
المشهورة القائلة: "إذا كُسرت بيضة بواسطة قوة خارجية، فإن حياتها قد إنتهت، أما
إذا كُسرت بواسطة قوة داخلية، فإن هناك حياة قد بدأت"، فبعد عقود متتالية من
النضال والكفاح والتضحية، تمكنّت "جنوب أفريقيا" من التعايش مع مختلف
الأطياف السياسية، وسيرة مانديلا ستظلّ "نموذجاً نضالياً" لعشرات السير
الذاتية التي ضحّت بحياتها لتتذوق شعوبها طعم الحريّة والإستقلال. وستبقى مقولته المشهورة: "أنا لست حُراً حقّاً
إذا أُخذت حرية شخص آخر" يتوارثها أبناء جنوب أفريقيا جيل بعد جيل، بل قد
تشعل جذوة حماس كل من ينشد الحرية وينبذ الإستبداد بمختلف صوره وأشكاله.