الأربعاء، 17 يونيو 2020

"ما هكذا تورد الإبل...!"



تدوين: يحيى السلماني
في مشهد مؤثرّ، تناقلت وسائل التواصل الإجتماعي مؤخراً مادة "فيلميه" لأحد الأطبّاء البيطريين وهو يتخلص من كميات كبيرة من النفايات البلاستيكية ابتلعتها إحدى "الإبل" بمحافظة ظفار، وقد لاقى هذا الفيديو المُتناقل اهتمام الكثير ممن يولون عناية خاصة بقضايا البيئة خصوصاً تلك المتصلة بالرعي والرفق بالحيوان بالسلطنة، هذا المشهد الذي تناول أحد الجوانب التي تمسّ حياة "الإبل" في السلطنة هو ليس الأول من نوعه، فقد خُصّصت قبيل أشهر "هاشتاجات" سلّطت الضوء على تعرّض حياة "الإبل" للإنتهاكات في الطرق السريعة، وهي مشاهدٌ أستوقفتنا ولفتت نظرنا للحديث عن أمر هذه "الظواهر" التي تلامس حياة أحد أهم الموارد الطبيعية لثروتنا الحيوانية بالسلطنة.
بادئ ذي بدء، إن الإحصائيات الصادرة عن وزارة الزراعة والثروة السمكية تشير بأن "السلطنة تأوي  (3433840) من الحيوانات منها (257710)  جملاً"، تعتمد معظمها على نظام "الرعي التقليدي"، أو في حالات أخرى على نظام "التربية المنزلية"، فضلا عن نظام "التربية المُكثّف" الذي يعتمد على تربية الحيوانات في حظائر "تجارية" خاصة. وتقدّر الوزارة مساحة المراعي والغابات في محافظة ظفار بوجه خاص "بنحو (500) ألف هكتار"، وتُصنّف السلاسل الجبلية الممتدة من ولاية ضلكوت غرباً وحتى ولاية سدح شرقاً المنطقة الرعوية الأساسية في المحافظة، نظراً لما تتميز به من "خصائص أحيائية (بيولوجية) فريدة"، ألا أن هذه المراعي تعاني من عمليات الرعي الجائر، وتأثيرات الأنشطة السياحية، وندرة المياه، و"استقطاع" مساحات كبيرة من أراضي الريف وتوزيعها كمناطق سكنية، كما ساهم حفرالآبار الارتوازية على امتداد هذه السلسلة الجبلية في اتساع رقعة التصحر، وبدقة أكثر، فإن الدراسات البيئية تؤكد "أن 90% من مساحات المراعي تاكلت بسبب الرعي الجائر بالمحافظة". وهناك "ما يقرب من 14 الف حائز رعوي في محافظة ظفار"، وبيانات منظمة الزراعة والاغذية للامم المتحدة (الفاو) تشير إلى "انه خلال عام 1990م قدّرت طاقة مراعي جبال ظفار بـ 2.8 مرة أقل مما تحتاجه الحيوانات التي تعيش عليها، وبهذا تقدر نسبة الرعي الجائر بـ 65% وهي نسبة عالية جداً حيث ان الرعي الجائر عندما يصل الى نسبة 30% يؤدي الى التصحر وانجراف التربة وتدهور جودة المراعي".
تُعدّ ظاهرة الرعي الجائر السبب الاول والاهم في تدهور المراعي الطبيعية بجبال محافظة ظفار، وتتمثل هذه الظاهرة في زيادة أعداد الثروة الحيوانية وتجاوزها طاقة حمولة تلك المراعي بمقدار ثلاثة أضعاف تقريباً مما أدى إلى سوء استغلال هذه المراعي وتدهورها، وفي هذا السياق يوضح المسح الذي نفذّته وزارة الزراعة والثروة السمكية "أن 90% من المراعي الطبيعية بجبال ظفار فقيرة نتيجة لعمليات الرعي المُفرط، نتج عنها تدمير سريع للغطاء النباتي"، وهو الأمر الذي تصبح فيه "الإبل" مضطرة للبحث عن "قوت" يومها في مراعي جافة لا تتوافر بها المادة الغذائية الصحية، وقد قامت وزارة الزراعة والثروة السمكية في تسعينات القرن الماضي  بتجربة "إراحة المراعي" في عقبة طوق بنيابة طيطام التابعة لولاية صلالة، وقد اتت هذه التجربة بثمارها، حيث أفادنا الدكتور محاد شماس، أحد خبراء البيئة بالمحافظة، "أن كميات النباتات نمت بواقع عشرة أضعاف"، ألا أن الوزارة لم تواصل ذات التجربة منذ ذلك الحين.
هناك أيضاً الأثر السياحي، أحدث الإحصائيات الصادرة عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات تشير إلى أن عدد زوار خريف صلالة فقط خلال العام المنصرم (2019م)  709 ألفا و 97 سائحاً توافدوا على المحافظة من مختلف بقاع العالم. وهذا الرقم يوحي أن المحافظة تحظى "بنصيب الأسد" من جملة السواح بالسلطنة خلال فترة الصيف التي تمتّد من يوليو حتى نهاية سبتمبر من كل عام، وهي فترة الذروة لنمو نباتات وأعشاب المراعي. ألا أن التراخي في التعامل مع هذه الافواج من السواح يؤثر سلبا على مواردها الطبيعية، ولنا في المشهد المتداول بمنصات التواصل الاجتماعي خير مثال، ففي ظل غياب الرقابة من قبل جهات الإختصاص في التخلص من نفايات السائح بمختلف أنواعها (خصوصا البلاستيكية) يتسبّب كل ذلك في إنهاك الطبيعة وهلاك مواردها الأحيائية، ناهيك عن التسبب فيما يطلق عليه "التشوية البصري"، فتفتقد مراعي المحافظة جمال سهولها ونضارة سلسلة جبالها الخضراء، هذا التشويه ناتج من عدم مبالاة السائح وتقيّده بشعار "أترك المكان أحسن مما كان"، ولم تكلّف الجهات المختصة مسؤوليها لإيجاد الية حديثة تحقق من خلالها ما تُنادي به منذ عقود تحت شعار "السياحة المستدامة"، على ضوء ذلك، يتوجب علينا أن لا نتناسى أن إستدامة السياحة بمحافظة ظفار تُعتبر "ضرورة وليست ترفاً"،  وكلنا أمل في أن تتمكن مراعي المحافظة من استعادة مكانتها، خصوصاً في ظل الحظر الرسمي عن مُمارسة أي نشاط سياحي خلال هذا الموسم تجنّباً لتوسّع الاثار الصحية لفيروس كورونا، وربما سيسهم هذا الحظر في تقليص حجم النفايات التي تتضرر منها جميع الحيوانات بما فيها "الإبل"، وربما تُصبح "ضارّة" كورونا "نافعة" لمراعي المحافظة و"إبلها".
في حدود السلطنة، والحديث بالحديث يذكر، باتت أيضاً ظاهرة "الجمال السائبة" تُشغل شريحة واسعة من المجتمع، وقد حازت هذه الظاهرة على صدارة قائمة التغريدات في منصّات التواصل الإجتماعي، حيث عبّر الكثيرين عن امتعاضهم، وتوالت إتهاماتهم لتسبّبها في الكثير من الحوادث المروّعة التي جلبت "الأحزان" للكثير من الأسر، ناهيك عن إزهاق أرواح بريئة. علاوة على ذلك، تتسبّب "الإبل" السائبة وغيرها من الحيوانات في "تخريب" مشاريع التشجير التي تسعى الأجهزة البلدية من خلالها إلى توسعة الرقع الخضراء في مختلف ولايات السلطنة، كل ذلك جاء نتيجة تمادي مُلاّك عشرات القطعان من "الإبل" في الحفاظ على حياتها ومتابعة تربيتها بشكل جيد، وأصبح من الطبيعي أن يتسائل البعض عبر منصات التواصل الإجتماعي بشيء من الإلحاح عن نوع الالية التي تعمل بها الجهات المختصة للحد من انتشار هذه الظاهرة؟  وما المادة القانونية التي قد تستند إليها لردع مُلاّك هذه الإبل؟.
استناداً إلى خبراتنا العملية المتواضعة في المجال البلدي لسنوات خلت (1993 – 2007م)، نُدرك أن جهات الاختصاص التي توكل إليها مهام متابعة هذه القضية هي الأجهزة البلدية، فبلدية مسقط تطبق الامر المحلي رقم (91 / 20) الداعي إلى "عدم ترك الأغنام السائبة في الطرقات ويمنع تربيتها في الأحياء السكنية"، أما المادة رقم (1) من قانون تنظيم البلديات الإقليمية الصادر بالمرسوم السلطاني رقم ( 86 / 87) والقرار الوزاري رقم ( 86 / 8 ) بشأن تنظيم حفظ الحيوانات السائبة أو المهملة فتنص على الاتي: "يُحظر ترك الحيوانات مهملة أو سائبة أو السماح لها بالرعي في المدن والقرى السكنية أو على مسافة تقل عن كيلومتر واحد من الطرق العامة والرئيسية، وعن نصف كيلومتر من الطرق الفرعية، كما لا يسمح لها بالرعي في الأماكن غير المخصصة لها"، وما يُبشّر بالخير فأنه قد تم مؤخرا إحالة عدد من المخالفين للإدعاء العام حسب تغريدة نشرتها الوزارة عبر حسابها الرسمي على تويتر.
ما نود التنويه به هنا أن ظاهرة الحيوانات السائبة ليست حديثة العهد، بل هي ظاهرة تسعى الاجهزة البلدية منذ تسعينات القرن الماضي إلى الحد من خطورتها، وقد كان لي شخصيا شرف مُشاركة زملائي في صياغة التقارير الخبرية المتصلة بتسيّب ونفوق الحيوانات السائبة بالسلطنة وذلك فور التحاقي بالعمل في وزارة البلديات الإقليمية والبيئة (انذاك) في عام 1993م. ولذا، نجد أن استمرار  هذا الإشكال يتمثّل في عدة أسباب، منها إهمال الملاك لحيواناتهم، أما الأمر الثاني فيعزى ربما إلى ضعف "الرقابة الميدانية" المستمرة من قبل الأجهزة البلدية، كما يتوجّب في ذات الوقت تعزيز أدوار "الضبط الإداري والقضائي" لحماية مستخدمي الطريق، ومن ثم توفير الوقاية "للإبل" وتجنيب هذه الحيوانات - التي لهم فيها منافعٌ كثيرة - مصائب الحوادث المرورية، وما نتمناه هو أن تنتهي مثل هذه العوارض المُحزنة في قادم الوقت، خصوصا وأن الأجهزة البلدية تواصل جاهدة منذ تسعينات القرن الماضي بث برامجها التوعوية الهادفة إلى تعريف شريحة مُربي "الإبل" والمواشي بالأضرار الجسيمة التي تتسبّب فيها إهمال مواشيهم و إبلهم.  
ولتكتمل الصورة، فإن مسلسل الإنتهاكات التي تتعرض لها "الإبل" لا تتوقف عند حدود السلطنة فحسب، بل أصبحت  هذه المخلوقات التي سخّرها الله سبحانه وتعالى للناس متاعاً، يشربون ألبانها، ويأكلون لحومها، ويلبسون جلودها، ويرتحلون على ظهورها، ، غير مُستثناه من موجة التأثيرات الجانبية للتحضّر المدني التي تلقي بظلالها على الأخضر واليابس، فمثلما تُعاني "إبل" السلطنة من مرارة "التشتّت والإهمال"، تتعرّض حياتها في دول أخرى مثل أستراليا على سبيل المثال لا الحصر، للانتهاك مع "سبق الإصرار والترصّد"، ولنا في "المجزرة الوحشية" التي ارتكبت بحق "الإبل" في جنوب استراليا في مطلع هذا العام مثال يبرهن صدق ما نقول، حيث اتهمت عشرة الاف من "الإبل" بتلويث المياه وزيادة حدة الجفاف، ورفع معدّل التعرّض للحرائق، وبهذا اعتمدت السلطات المحلية برنامجاً خاصاً لإدارة "الإبل" بهدف التقليل من أعدادها من خلال القضاء عليها بواسطة رماة محترفين استخداموا "الرصاص الحيّ" من مروحيات خُصصّت لهذا الغرض.
من يتخيّل مشاهدة عملية الإبادة الجماعية "للإبل" التي تمّت بوحشّية وهم يطلقون عليها الرصاص بعشوائية دون رأفة؟ وإذا ما اتهمت "الإبل" حسبما نقلته الصحافة الاسترالية من أنها تتسبب في بث غاز الميثان الضار الذي يسهم في رفع مستوى الاحتباس الحراري وعدّل الحرائق، فماذا بعد أن توصل عُلماء أستراليا بعد أسابيع من هذه الحادثة لاكتشاف تم وصفه بالغريب، فالمتهم الأول في انتشار الحرائق التي التهمت مساحات شاسعة من غابات استراليا هو "طائر الحدأة"، الذي يتنقل بسهولة بين غاباتها فيسهم في تأجيج حرائقها، وليس "الإبل"، هنا نتسائل: هل سينال هذا الطائر ذات العقوبة" التي لحقت "بالإبل" إذا ما تعرضّت أستراليا لنفس الاوضاع في قادم الوقت؟!      
لا يفوتنا هنا الإشارة إلى أن "الإبل" التي تمتاز بهيبة أجسادها، وقدرتها الفائقة على التحرّك بسهولة في الرمال الصحراوية الحارقة، وصبرها على أن تبقى على قيد الحياة دون طعام أو شراب لفترة طويلة، تحظى بمكانة خاصة في ثقافة كل المجتمعات الريفية والبدوية، فما تزال إمكانية الكثير من القبائل تُقدّر بالكم العددي لمجموع "الإبل" الذي تمتلكه، وقديماً كانت "الإبل" تمثّل "الحصص المالية" لمهر العروسة، ورواية صراع الشاعر الجاهلي "عنترة" لأجل الفوز بحبيبته "عبله" عندما وقف "اللون والنسب" عائقاً لتحقيق أمنيته بالزواج من عشيقته ما تزال تُروى في "صالونات" الأدب العربي وقاعات تدريسه، فعمّه الذي فضّل عليه "عمارة بن زياد" غريمه وعدوه اللدود، إشترط عليه مهراً "تعجيزيّاً" لم يكن من السهولة الإيفاء به، ألا أن "عنترة"، وبعد خوضه العديد من المغامرات "أتي بمائة ناقة وسلمّها لعمه"، ومن ثم حقّق بهذا الاعتراف به "كفارس" يستحق الزواج من "عبله". كما كانت "سفينة الصحراء" وهي التسمية التي يطلقها العرب على "الإبل"، حاضرة وقت الأتراح أيضا، فتدفع النوق والجمال ثمناً "لدية" القتل، وورد في الحديث: «لا تسبّوا الإبل فإن فيها رقواء الدم ومهر الكريمة»، وحازت "الإبل" على مساحة كبيرة في الوجدان العربي، فوصفها الشعراء، وضُربت بإسمها الأمثال، ومن بين ما يستحضرني وأنا أدوّن هذه الزاوية المثل الشائع: "لا ناقة لي فيها ولا جمل"، ترميز للإبتعاد عن كل ما من شأنه التدخل في أمور الغير، ويُردّد العرب أيضاً: "استونق الجمل"، ويضرب لصاحب الشهامة والقوة بعدما يُذلّ ويُهان، وهناك الكثير من الدلائل على أهميتها في الكتب السماوية فجاء في الإنجيل: "أن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني ملكوت الله"، وهو ما يوازيه في الاية الكريمة: "وَلَا يَدْخُلُوْنَ الجَنَّةَ حَتّٰى يَلِجَ الْجَمَلُ في سَمِّ الخِيَاط"، وذُكرت "الإبل" في القران الكريم في أكثر من موضع، يقول تعالى: «اَفَلا يَنْظُرُونَ الَى الاِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ». وقد أوصى رسول الله (ص) الاهتمام "بالإبل" والمحافظة عليها بقوله: «إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظَّها من الأرض، وإذا سافرتم في الجدب فأسرعوا عليها السير".
فصل القول: "للإبل" قيمة إقتصادية وإجتماعية وثقافية، "إقتصادياً" هي إحدى ركائز قطاع "الإنتاج الحيواني" والحفاظ عليها قد يسهم في دعم استراتيجات "الأمن الغذائي" الذي تتطلع إلى تحقيقه حكومة السلطنة، فبلادنا ما تزال بحاجة إلى المزيد من "أوزان" اللحوم والألبان الطازجة، و"إجتماعياً" فهي، أي "الإبل"، دائماً ما تكون حاضرة في مناسباتنا الدينية والوطنية والإجتماعية، أما "ثقافياً" فلها في عقيدتنا ووجدان شعرائنا وأدبائنا وساحاتنا الفنيّة نصيبٌ وافر من التقدير، وحتى نضمن "للإبل" مكانتها المرموقة، وتبقى "عزٌ لأهلها"، يتوجّب أولاً على مُلاكّها الاعتناء بها، وإكرامها بعدم إهمالها وتركها "سائبة" تهيج وتميج ثم تتفرّق، ومن أنس تربيتها عليه أن يتأمّل القدرات "الاستثنائية" التي وهبها الله سبحانه، وأن يستذّكر حوادث تذهب ضحيتها أرواحٌ عزيزة علينا، ثم يوصف كمن قصّر في الأمر أو كمن تكلّف أمرٌ لا يحسنه فقيل فيه: "ما هكذا تورد الإبل"!.   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

خور الملح موطن الذهب الأبيض

  تدوين: يحيى السلماني مع بداية فصل الصيف التي تمتد من مايو حتى شهر أكتوبر تنشط وتيرة انتاج الملح بالطريقة التقليدية في ولاية قريات. وبنهاية...