السبت، 29 أغسطس 2020

الدجاجة التي تبيض ذهباً...!

 

تدوين: يحيى السلماني

وصف أحد المهتمين بقطاع السياحة البيئية أن الطبيعة التي تُفسح لنا مجالات التأمّل بمخلوقاتها، والتنّزه بين جنبات جبالها، ونغامر في بطون أوديتها، ونتشمّسُ على ضفاف أنهارها وبحارها، وتنشّط اقتصاد بلادنا، هي في مُجملها تحملُ مُقوّمات "الدجاجة التي تبيضُ ذهبا"، ويأتي هذا الوصف الذي شدّ انتباهي فور قرائته مبنيّاً على أن الطبيعة البكر تُعدّ مصدراً هاماً للكسب الفردي، ويسهم أيما إسهام في رفد الدخل القومي في البلدان التي تتمتّع بطبيعة غنّاءه مُثمرة في حال إستثمرت ثروات الطبيعة وفق استرتيجيات مدروسة وبطرق رشيدة ومُستدامة.

خلال الفترة التي قضيتها في العمل بالمؤسسات البيئية بالسلطنة منذ عام 1993م، بذلت قصارى جهدي لتطوير مهاراتي الفنية في مجال الصحافة البيئية، كما حرصت على الإلمام قدر الإمكان من محتوى العمل البيئي، ألا أنه بعد مضي ما يقرب من 23 عاماً، أو رُبما قبيل ذلك بسنوات، أُصبتُ بامتعاض إلى حد لا سبيل لوصفه، وبتُ أشعر بإشمئزاز لا يُمكن الصبر عليه، لأسباب منها الظاهر (معروف) ومنها الباطن (مُتستّر عليه) يطولُ شرح تفاصيله، ألا أنه يمكن تلخيص "امتعاضي" في أن بيئة العمل بمؤسسات هذا القطاع باتت، من وجهة نظري المتواضعة، مُملّة ومُمتلئة بمن لا "يُميّزون بين الغناء والمواء"، فاتخذت قراري النهائي بالإستقالة والفرار إلى بيئات عمل أكثر حيوية وأريحية، عملاً بوصيّة أديب وشاعر المهجر الذي أحببته، جبران خليل جبران،: "ليست قيمة  الإنسان بما يبلُغ إليه، بل فيما يتوق للبلوغ إليه"،  ثم نأيت بنفسي مُفضلّا، بعد 23 عاماً من العمل الرسمي، التفّرغ للعمل الحر، وخوض تجربة عملية وحياتية جديدة قد تمنحني حيّزاً من الاستقلالية.

ثُم بعدها مُباشرة أستأنفت عملي في عدّة أنشطة ومهن، كنت املاً وساعياً من أن أتمكن من الوقوف على رجلي وتحقيق نجاحي المأمول، ألا أن ظروف الوقت أدركتني، ومُتغيرات الأحداث تسارعت، فحلّت، خلال أقل من ستة أشهر من استقالتي، أزمة انخفاض أسعار النفط الحادّة، ثم ما لبثت تتردّى حالة سوق العمل وتتدحرج مؤشراته بشكل متسارع من السيء إلى الأسوأ، عندها وجدت نفسي وأنا أنتقل من نشاط عمل إلى اخر، كمن يصفه المثل المصري: "سبع صنائع، والوقت ضائع"، فلملمتُ أدواتي، وحزمتُ أمتعة "مُغامراتي" العملية الأولى تلو الأخرى، ثم راجعت نفسي، وحسبت تحركاتي، أدقّق طوال وقتي فيما الت إليه الظروف، وأبحث مُنفرداً ووحيداً عن حل "سحري" قد ينتشلني من مغبّة اثار الركود الاقتصادي الذي عانت منه، كما عانيت أنا، مختلف قطاعات العمل بالسلطنة.

 وبما أني أحد المُغرمين بالسفر والرحلات الاستكشافية (إن لم أكن مجنونا بذلك)، فسحتُ باكراً في ساحات كبريات المدن، وقضيتُ ليال بحالها أمخرُ عباب فضاءات البحار والمُحيطات، وتنزّهت في أروقة أشهر المتاحف وتمحلقت عيناي في مقتنيات أقدم القصور، وزرتُ وأنا مُمتلئٌ طهارة أنقى المساجد، وأعتق الكنائس وأشهر المعابد، وفي حالات نادرة سكنتُ الفنادق الفارهة، واكتريتُ، في حالات كثيرة، الأكواخ الصغيرة (الشاليهات)، وجربّت رياضة التسلق، ومارست الغوص مع السلاحف والحيتان، وخلال جولاتي، تلاطفتُ مع السائل، وأشفقتُ على صاحب العوز والحاجة، و"ياما" أُنتُشلت جيوب ملابسي أمام العامّة والخاصة في عزّ الظهيرة جهاراً نهاراً، وأنست بصحبة من أُحب، وتحملّت سُخط من لا أحب من بعض من التقيت بهم، وتقبلّت قُبح الاخرين، وخلال أسفاري اكتويتُ بوهج الوحدة، كل ذلك حدث لي، وما زلتُ تواقّا لخوض تجارب سياحية جديدة لأتمكن من اكتشاف المزيد من خبايا هذا العالم المتناقض بشجره وبشره، الملئ بالغرائب والغرائز والعجائب.

ذلك كله جرّني للبحث عن رواق عمل جديد، قريب من اهتماماتي، كنت مؤمناً بما قاله كونفوشيوس: "ليست العظمة في أن لا تسقُط أبداً، العظمة أن تنهض كُلما سقطت"، ولذا إرهاق البحث عن منافذ أخرى لتأمين لقمة العيش ذكرني مراراً بمقولة يوهان غوته (الأديب الألماني) التي تسدي النصح بأهمية المبادرة في العمل بما تحب، حيث ينصح قائلاً: "أي شيء يمكنك القيام به، أو تحلم بالقيام به، إبدأ به"،  فخطر ببالي التفكير بجديّة عن جدوى الاستفادة من خبراتي المتواضعة في مجالي السفر والسياحة، مؤمناً بأن "الخوف من الفشل يجب أن لا يكون حجة لعدم التجربة" كما يقول فردريك سميث.

لم يستغرق الوقت طويلاً حتى تحقّقت أمنيتي بعد أن اجتزت إختبار المقابلة الشخصية، فحصلت على "ترخيص" الإرشاد السياحي من جهة الاختصاص (وزارة السياحة سابقاً)، ثم أنشأت الموقع الإلكتروني الخاص بي، وتواصلت مع عدد من وكالات السياحة المحلية، وفي أقل من شهر، بدأت في جني بذرة غرسي الأولى، التي منحتني أيضا فرص لممارسة هواية السفر والتنقل ولكن هذه المرّة في شكل "الهرم المقلوب"، فبعد أن كنت سائحاً لافّاً ما يربو على 45 دولة في مختلف قارات العالم، سأصبح اليوم مُرشداً سياحياً، أستقبل الزوار من ردهات المطار، أرافقهم إلى مقار إقامتهم، ثُم أتكفّل بإرشادهم إلى مختلف الوجهات السياحية التي تخيّروها بأنفسهم.        

 ظروف عمل المرشد السياحي ليست بالأمر السهل كما قد يتوقعّه البعض، وأنا كُنت أحدهم، فالمُرشد السياحي، علاوة على لياقته البدنية (الصحية)، فهو بحاجة إلى قدر جيد من المعرفة والثقافة، وحتى يتمكن من تقديم "وجبته المعرفية" بشكل يليق بمستوى السائح، يكلفّه تجميع "ذخيرة" واسعة من المعلومات الدقيقة في مختلف المجالات: سياسية، تاريخية، إقتصادية، بيئية، مُناخية، إجتماعية، تربوية ...الخ، وبرغم كل ذلك، ألا أنني، بفضل من الله، ثم بفضل تعاون عدد لابأس به من زملاء المهنة، نجحت في ممارسة دور المرشد السياحي بحرفيّة، تفوقت في أحايين كثيرة على من خبروا هذه المهنة قبلي بسنوات، طفت خلال جولاتي عشرات من مواقع الجذب السياحي بالسلطنة، وأكثرُ ما حُظيت به هو الالتقاء بعشرات الجنسيات من السواح، خصوصاً أولئك القادمون من أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا، وهو ما وفّر لي فُرصة جيّدة لتبادل معلوماتي وإثراء واكتساب معارف جديدة عن بلدان العالم بلسان أهلها. 

أعرض تجربتي المتواضعة هذه ونحن ندرك بأنه لا يختلف إثنان على أن السلطنة تحظى بمقومات سياحية تنفرد بها عن غيرها من الدول، واذا كانت مقومات السياحة طبيعية وذات عراقة حضارية، فالسلطنة تملك ثروة مهمّة في هذا المجال، ولكن تبقى كيفية استثمار تلك المقومات واستغلالها لتصبح مصدر دخل وفخر للمواطن العماني، ولا يفوتنا الإشارة هنا إلى أنه لا بُدّ من تأهيل جميع المناطق ذات الجذب السياحي، خصوصاً تلك التي ما تزال تفتفقر إلى أدنى مستويات المرافق الخدمية، كما يتوجب من جهات الاختصاص النظر بجدية في تأمين حماية دائمة للمعالم التاريخية والمواقع الطبيعية حتى يمكن "استدامة" الاستفادة من جميع تلك المعطيات، ما نقصده هنا يجب عدم إغفال عملية تنظيم النشاط السياحي حتى لا يصبح أداؤه تدميراً للطبيعة  ومصدر تخريب لها.

أما الجانب الآخر الذي يشغلننا ذكره في هذه التدوينة، أنه في كل مرة تسنح لي الفرصة بالقيام بجولات لبعض من هذه المواقع الطبيعية بمختلف ولايات السلطنة، تنكشف لي آفاق سياحية جديدة تتنوع بين المواقع الأثرية العريقة وبين واحات الطبيعة العذراء التي وهبها الله بلادنا الغالية، وفي كل مرة أحظى فيها بمشاهدة تلك المواقع يمتلئ قلبي غبطة وسعادة، وأشعر بالزهو أمام من يرافقني من جملة السواح، ألا أنه وبقدر شعوري بهذه الفرحة، تعتريني في ذات الوقت غيرة ممزوجة بالتحسّر والألم، ففي غالب الوقت، خلال زياراتي التي أضحت متكررة وبشكل يومي لمختلف المواقع، نُفاجأ أن غالبية من يرتادوها هم من الُمقيمين أو مجموعات السياح الوافدين فقط، ولا ضير في ذلك ، فالُمقيم والسائح يلعبان دورا هاما في نقل الوجهة السياحية للسلطنة، وهو ما يُساهم أيضا في إثراء السياحة الداخلية وتنشيطها، ليصبح مجالها أوسع وأشمل، ولكن في ظل تمتّع السائح بهذه المناظر الخلابة والطبيعة البكر، يبقى العُماني "مُنعزلاً" عن الاستمتاع بمفردات تلك الطبيعة، وبعيداً عن التفاعل مع معطياتها حتى يصبح لدرجة أنه يجهل تلك المواقع وأهميتها التاريخية والبيئية، التي تُشكل مصدراً هاماً لتنمية المعرفة وتعزّز الثقافة الوطنية في هذا المجال.

في ظل إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، نحن "ربما" على مشارف رؤية تنموية جديدة للقطاع السياحي، قد تدفع بتطوير عجلة الأداء السياحي بالسلطنة لتُصبح مصدر جذب سياحي من "الدرجة الاولى" تُناسب مختلف الفئات العمرية، وفي ظل الاهتمام المتنامي لحكومة السلطنة لهذا القطاع، لا يفوتنا هنا أن نتوجّه بصوتنا إلى جميع جهات الاختصاص بضرورة أخذ الاعتبارات اللازمة، والاحتياطات الواجبة التي تُسهم في الحد من تدمير الموارد البيئية الاستثنائية التي تحظى بها السلطنة، ويبقى القول: أن إدارة المواقع السياحية بأسلوب حديث، وتنشيط السلوك الواعي لدى مرتادي هذه المناطق يُعدّ أولوية.

ندرك أن الجميع له حق الاستمتاع بالطبيعية مع الحرص على إبقائها بمنأى عن مخاطر التشويه والتلوث والتدهور والاستنزاف، وفي الوقت الذي بدأت فيه أجواء السلطنة بالتحّسن، و"التعافي" تدريجياً من أعراض "كورونا"، ها نحن ندعوكم لزيارة بعض من الوجهات السياحية الفريدة بالسلطنة لتحظوا أنتم أيضاً بنصيبكم الوافر من "البيضة الذهبية".   

 

 

هناك تعليقان (2):

  1. كم نتمنى أن نرى إهتمام بما وهب الله عُمان الحبيبة من تضاريس وأماكن سياحية يعجز اللسان عن وصفها وبدون أي مبالغة فهي ممكن أن تنافس العديد من الدول التي تحظى بإقبال كبير من السياح.. أحسنت أخي يحيى مقال رائع

    ردحذف

خور الملح موطن الذهب الأبيض

  تدوين: يحيى السلماني مع بداية فصل الصيف التي تمتد من مايو حتى شهر أكتوبر تنشط وتيرة انتاج الملح بالطريقة التقليدية في ولاية قريات. وبنهاية...