تدوين:
يحيى السلماني
لمحته،
ليس كعادته، مُنزوياً في إحدى زوايا المقهى الذي اعتاد على ارتياده منذ سنين، ماسكاً
بفنجان القهوة بين يديه، وكأنه يتحسّسُ شئ ما قد ضاع منه، وجدته مُرهقاً كئيباً، دنوت
منه وربتُ على كتفيه ثم صافحته، التمعت عيناه مرحاً، وارتسمت في محيّاه ابتسامة
كسيرة، بادلني التحيّة باضطراب وخجل، شعرت بحجم السأم الذي يتسلّل إلى روحه،
والملل الذي يجتاح أحاسيسه.
جلستُ
إلى جانبه وتحدّثت معه، استذكرنا أياماً عشناها سويّاً بحلوها ومرّها، بأفراحها وأتراحها،
بنجاحاتها وفشلها، بهدوئها وصخبها، بنورها وظلامها، بخيرها وشرّها...! سألته:
أخبرني، ماذا عنك؟ بدأ حديثه هادئاً، لكنّه حمل بين طيّاته صيحات مُترعةٌ بالألم،
وممزوجة بالسُخط، ومشحونة بالحنق والإمتعاض، صارحني خلال حديثه: "لطالما
اعترتني نوباتٌ من الشقاء فقدتُ خلالها الرغبةُ في الحياة"، وأثناء حديثه حاول
قدر الإمكان أن ينتقي كلماته ويُضفي عليها -كما عهدته في "رمسات" سابقة
- لمسات مرح وابتهاج لا تخلو من دُعابة ساخرة، ثُم ألمح لي بنبرة صوت خافتة: نحن
ضحايا من وصفهم المثل الشائع: "محروم وطاح في عصيده". بدوري تراجعتُ والتزمت
الصمت و"لم أنبس ببنت شفه"، ثم قلتُ في نفسي: هو إذن كغيره، إحدى ضحايا خطأ
لم يرتكبه.
بعد
حديث لم يطل لأكثر من ساعة ونصف، أوجعني حال أحد رفقاء دروبي المهنيّة، إضطررتُ
مُغادرة رفيق دربي وأنا أهمس مع نفسي أناشيد حفظناها سويّاً عن ظهر قلب، أناشيد
تتغنى بجمال وحُب الوطن والطبيعة، غادرتهُ وهو ما يزالُ يفرك بيديه فنجان القهوة
وكأنه يودّ التخلّص من الروائح الكريهة التي عكّرت صفو أجواء حياته مثلما يفرك "الشيف"
يديه بعد الطبخ ببقايا القهوة ليتخلّص من روائح الثوم والبصل.
عدت
أدراجي مُثقل الفُؤاد،
كسيرُ القلب، أخفيتُ ألمي كما لو لم يحدث شيئاً أو أسمع شيئاً، استلقيت مُرهقاً، مذهولاً،
مهموماً، مذعوراً، مُتسائلاً: من الذي سيلقي بالاً على رفيق الدرب الذي باتت
الحياة تعتصرهُ في أواسط عمره بأصابعها الصغيرة، وتنهشهُ بمخالبها الحادّة، متى
سيأتي اليوم الذي ترتقي فيه "إنسانيّة" حكيمة تتمكّن من ردع تصرفات
"الوحوش الكاسرة"، وتُنهي بإعجوبة مشروع "شريعة الغاب"
السائدة...؟ أتساؤل مع نفسي وأنا ما أزال مُستلقياً: ما الذي أوصل الأمور إلى هذا
الحدّ؟ ومن الذي يقف وراء كُل هذا الجور والضيم؟.
فقتُ من غفوتي، ثم مرّرت رسالة نصيّة قصيرة إلى رفيقُ دربي مُواسياً:
تيّقن
أنّ الأيّام العسيرة ما هي إلا ساعاتٌ زائلةٌ، ستتلاشى مع مرور الزمن، وستستعيدُ بعد
انقضائها صفو الحياة، وجميعُنا لا نملكُ في هكذا حالات إلا أن نرفع أيادينا
مُبتهلين: "اللهم لا نسألك ردّ القضاء، ولكن نسألك اللُطف فيه"، اللهم
امين...!.
يا كثر مثل هذا الصديق
ردحذفلكن المفروغ منه أن القادم أفضل من الذى ولى
يجب علينا بث روح التفاؤل وان ننسى الماضي بكل أوجاعه وأفراحه