تدوين:
يحيى السلماني
تُعدّ
الحارات العُمانية القديمة إرثاً حضارياً يحكي تفاصيل التاريخ السياسي والاجتماعي
والثقافي والمعماري للسلطنة. ما يُميّز هذه الحارات طرازها المعماري المبنيّ
بالطين والحجارة والجص، كما تلعبُ أبوابها ونوافذها الخشبية بألوانها الزاهية
دوراً كبيراً في إضفاء لمسة جمالية استثنائية لهذه الحارات، فالأبواب والنوافذ
العتيقة التي تُزيّن بيوت هذه الحارات وحصونها وقلاعها ومساجدها وأسواقها
التقليدية أصبحت مقصداً حيوياً للسوّاح ومُحبيّ اكتشاف أسرار التراث المعماري العُماني من مختلف دول العالم.
اليوم،
هذه الحارات يُخيّم عليها الهدوء، أبوابها التي ما تزال تحتفظُ بزينتها متاكلة، و
"مراجيمها" موصدة، وأزقتّها خاوية، وأعمدتها تتهاوى، وأقواسها وجدرانها
وأسقفها تتساقط، ناهيك عن أن غالبيّتها تحولّت إلى مساكن و"مخابئ"
للعمالة السائبة، وساحاتها "معقّات" للنفايات، حدث كُلّ ذلك بعد نزوح أهالي
هذه الحارات إلى مواقع لأحياء سكنية حديثة، تاركين خلفهم عشرات الحكايات لتُروى،
ومئات الذكريات لتُوثّق، وإرثاً حضارياً ومعماريّاً يستحقُ العناية بتفاصيله،
والالتفات إليه.
أول
ما يلمحه زائر هذه الحارات أبوابها التي تمتاز بثقل وزنها وتنوّع ألوانها، وتباين زخارفها
ونقوشها الخشبية الرائعة، فأبواب المداخل الرئيسية لهذه الحارات وحصونها وقلاعها ومساجدها
مُصممّة بشكل يتوافق مع مُعطيات الوضع السياسي والاجتماعي السائد خلال الحقب
التاريخية القديمة التي تمتدّ لمئات السنين. وهو انعكاس لما شهدته السلطنة في مُختلف
مناطقها من الصراعات السياسية والمُتغيرات الاجتماعية. ولهذا، تعكس هذه الأبواب حالات
التغيّر هذه، فأبواب مداخلها الرئيسية التي تتزيّن بها واجهات هذه الحارات تتميّز بوجود
باب أصغر حجماً تُقاس بنصف قامة الإنسان تقريباً، توفّر هذه الأبواب الأصغر حجماً
مدخلاً ومخرجاً للأفراد حسبما يأذن حارس الحارة أو البيت أو الحصن بذلك، كما يُعدّ
هذا النوع من الأبواب أحد الأساليب التي كانت تُتّبع خلال تلك الحقبة بهدف تشديد
الحراسة وتأمين الرقابة الرصينة للدفاع عن أهالي الحارات أو ساكنيّ الحصون
والقلاع، وبهذا الأسلوب يتجنّب الناس أي هجوم مُفاجئ. كما يُراعي في تصميم الأبواب
الوضع الاجتماعي، حيث يحرص مُصمّم الأبواب على وضع مطرقتين على كل باب، إحداهما صغيرة
والأخرى كبيرة. عندما يتم الطّرق باستخدام الطرقة الصغيرة يفهم أهل البيت أنها امرأة،
فتقوم سيدة البيت بفتح الباب لها، أما عندما تستخدم الطرقة الكبيرة يُفهم أن الآتي
هو رجل ليقوم رجل ويفتح له باب البيت. وهذا الأمر سائد في بعض الحارات القديمة في
بعض الدول الإسلامية من بينها تُركيا على سبيل المثال لا الحصر، وهو أمرٌ قد وقفت
عليه شخصياً خلال زياراتي المتوالية لهذا البلد العريق بتعاقب حضاراته الإنسانية.
حسب
المصادر التاريخية، أن أخشاب هذه الأبواب والنوافذ كانت تستورد من الهند وشرق
أفريقيا. وهو مؤشّر لإزدهار الشق الاقتصادي بين السلطنة وهذه الدول، ويُعتبر خشب
الساج أشهر أنواع الأخشاب المُستخدمة في مُختلف الحارات القديمة، ويُصنّف هذا
النوع من الأخشاب بأنه خشب قويّ يُمكنه مُقاومة الحرارة والرطوبة ومُختلف التغيرات
المناخية لأوقات وفترات طويلة، كما أنه مُقاوم للنمل الأبيض الذي عادة ما يتسبّب
في تهميش المواد الخشبية، وتفادياً لذلك، فقد استخدم العُمانيون زيوت الأسماك تُطلى
بها الأخشاب المستوردة لضمان استخدامها لفترات طويلة.
وتحظى
الأبواب مكانة هامة في الحضارة والثقافة العُمانية. فغالبيّة الأبواب الخشبية بهذه
الحارات والحصون والبيوت تتميّز بزخارف ونقوش قلّما نجدها في أماكن أخرى، ويمكن
لزائر هذه الحارات أن يلفت نظره أن لكل باب هويتهُ الخاصة به، فأبواب بيوت العائلات
المُثقّفة تتزيّن بالايات القرانية وعبارات أدبية وشعرية، وتُنقش على واجهاتها
عبارات الترحيب، كما تُوّثق بها تواريخ بناء بعض من هذه المنازل. ويمكن لزائر هذه
الحارات مُلاحظة بعض النقوش الخشبية على العتبات العُلوية للأبواب العُمانية، ومن
بين النقوش السائدة رسومات أشجار النخيل والزهور التي تم نحتها بمهارة عالية
خصوصاً على أبواب المداخل الرئيسية، كما تُرصّع بعض الأبواب بمسامير برونزية
وحديدية مُزخرفة بأشكال مُتداخلة.
المصادر
تشير إلى أنه توجد بالسلطنة أكثر من ألف (1000 ) حاره، وخمسمائة (500 ) قلعة وحصن.
يعود تاريخ بعضها إلى حقبة ما قبل الإسلام. وقد تم إدراج بعض منها في قائمة التُراث
العالمي (اليونسكو). وبرغم من أن معظم هذه الحارات تُعاني منذ زمن من الإهمال بعد
أن هجرها سُكّانها، ألا أن هُناك بوادر شخصية بدأت تطفو على السطح، حيث بادر في
السنوات الأخيرة عدد من العمانيين بترميم بعض من البيوت في الحارات القديمة
واستثمارها سياحياً، وهو مؤشّر إيجابي نتمنى من جهات الإختصاص دعم وتبنّي مثل هكذا
مبادرات تصبّ في بوتقة الحفاظ على تُراث الوطن، وتُثري بالتالي الواجهة السياحية،
وتخدم الصالح العام، وحاراتنا القديمة ستظّل تواقّة لترحّب بكل من يأتيها قاصداً ليُطرق
أبوابها الموصدة فيدخل الفرحة بين زقاقها العتيقة، وينشر البهجة بين جنبات غرفها
ومجالسها ومختلف مرافقها.
انت مبدع ابو علي
ردحذفشكرا لك أخي العزيز
ردحذفماشاءالله جميل الله يوفقك يارب
ردحذف