الخميس، 26 مارس 2020

كورونا: "البعوضة تدمي مقلة الأسد"...!

تدوين: يحيى السلماني
في شهر ديسمبر من عام 2019 م، بدا فيروس كورونا (كوفيد-19 ) هادئا، لم يتوقعه البعض بما فيهم المختصون في مجالات الصحة، أن يتطور  وينمو ليصبح أحد الجراثيم المستعصية التي ستضاف في سجل أكثر الأوبئة فتكا في التاريخ البشري، فقد تجاوز الفيروس حدود القوميات والأعراق والأديان وأصبح وباء عابرا للقارات.  
اليوم وبعد ما يقرب من أربعة أشهر من تفشى هذا الفيروس الفتاك في أكثر من 140 دولة، يعيش العالم، شرقه وغربه، شماله وجنوبه، حالة استنفار قصوى، وعدم استقرار نفسي وصحي وحالة يرثى لها من التعثر الاقتصادي، وحكومات العالم، التي تعيش حالة من الإرتباك، تبذل جهودا مضنية لمواجهتة، والتقليل من حدة تأثيراته على صحة الإنسان والبيئة المحيطة به.
لا نستطيع أن نقدر قيمة ومقدار ما أنفق، لكن ما يمكننا الإفصاح به هو أن حكومات الدول ومؤسساتها هرعت إلى رصد مئات المليارات من الدولارات لمواجهة شبح كورونا (لم تستفد من هذه المليارات في إجراء البحوث العلمية مسبقا)، وأغلقت غالبية الدول موانئها البرية والبحرية والجوية، لا سيما بعد أن تضاعف عدد الإصابات به خلال فترة وجيزة إلى 15 مره، وهو ما عبر عنه التقرير الذي نشرته المجلة الأمريكية (The Atlantic) من وتيرة الخوف ورفع سقف الهلع لدى مختلف الشعوب إلى أعلى مستوياته، حيث جاء في التقرير: "يرجح أن يصيب كورونا ما بين 40 - 70 % من سكان الكرة الأرضية...".
توالت الاعترافات على استحياء، وبدأت الدول إصدار كشوفات يومية بالإصابات والوفيات، ثم إستحوذ خبر الفيروس على مساحات التغطيات الإعلامية، ومن يتابع الصحف ونشرات القنوات الفضائية، يشاهد عن كثب غالبية المدن الاسيوية والأوروبية والأميريكية قد تحولت إلى ساحات فارغة، توقف نبض الحياه في ساحاتها، وباتت أزقتها خاوية، وأسواقها باهتة، وكأنها أحياء هجرها ساكينها، فتحولت إلى "مدن أشباح" حسب ما تصفه وسائل الإعلام الدولية.
أدرجت الصين والفلبين وأسبانيا وسويسرا وبريطانيا وإيران تحت وضعية "الحجر الصحى الكلى" وقد تم الاعتماد على إجراءات وقائية صنفت من الدرجة الأولى، فتم تخصيص "المشافي المتنقلة"، واستقدام أجهزة طبية متطورة، وأوصت حكوماتها الابتعاد عن الفضاءات المزدحمة وتجنب القبلات والعناق عند تحية الأشخاص.
 وعلى المستوى الإقليمي، أوقفت السلطات السعودية أكبر الشعائر الدينية وأعظمها مراسم العمرة والحج، وباتت المزارات الدينية خاوية في مختلف البلدان الإسلامية. ومدن السلطنة وولاياتها، كمثيلاته من مدن العالم، امتثلت إدارات مطاعمها ومقاهيها وحدائقها ومنتزهاتها وفنادقها ومطاراتها وشواطئها ووجهاتها السياحية وأخيرا مدارسها ومساجدها ومزاراتها الدينية لتوجيهات الحكومة العمانية بإغلاقها، وللحد من اثار الفيروس ومحاولة لاحتوائه، كثفت الحكومة برامجها التثقيفية الموجهة لمختلف فئات المجتمع بغية التعاون ودعم استراتيجيتها الوطنية للتقليل من انتشار هذا الفيروس قدر الإمكان.
وبينما ينتاب الشارع العام الهلع والخوف، والإنشغال بتأمين أساسيات الحياة اليومية كالمأكل والمشرب وبقية المستلزمات الإستهلاكية، تطفوا على البرامج التلفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي تغاريد مقتضبه ترتكز حول عدة أمور: أولها يعنى بمتابعة تضاعف حالات الإصابات المتزايد، ومقارنتها مع الحالات الماثلة للشفاء، أما ثانيها فيتمثل في تصفح مضامين ما أطلق عليه "نظرية المؤامرة السياسية/ الاقتصادية" التي تسوق لها وسائل الإعلام، ويؤججها تراشق التهم بين الإدارتين الصينية والأمريكية لتعمد الأخيرة (أميريكا) لاستخدام للجراثيم أو الفيروسات، ويتمحور الأمر الثالث في ما وسم ب"العقاب الرباني" الذي يميل إليه المتصوفون أو من في صفهم، والذين يرون أن انتشار هذا الفيروس ما هو إلا سخط من الله على بني البشر ممن انتهكوا الحرمات، فحللوا الحرام، وأسفكوا دماء الأبرياء، واستباحوا أعراض وأموال الناس، فحان وقت الحساب، مستشهدين بالاية الكريمة: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها، فحق عليها القول، فدمرناها تدميرا". كما يستشهدون، في تغاريد مماثلة، بالاية 112 في سورة النحل "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ".  
بالرجوع إلى الأمر الأول: فقد تضاعفت أعداد الإصابات بطريقة أذهلت العالم، وأرجع أسباب ذلك على تغاضي العديد من الدول نشر الاعداد الحقيقية، أو قللت من أعداد الإصابات خوفا على مردودها الإقتصادي المرتبط بالسياحة، ألا أن هذه المنافع المؤقتة زادت من التكلفة وضاعفت من الخسائر البشرية والمادية، فحتى كتابة هذا الموضوع، يقدر عدد الإصابات بنصف مليون، وعدد الوفيات يتخطى 22 ألف شخص.   
 أما فيما يتعلق بسياقات "تسييس الوباء"، فرغم غياب الأدلة المادية المحسوسة، لم تتوقف الادارة الأمريكية من كيل الاتهامات للصين وإيران التابعتان للمعسكر الشرقي، ووصفتهما بأنهما هما الجهات المسؤولة أيضا عن انتشار الوباء، والتوجه في تسييس كورونا قد جر حكومات عدد من الدول للانسياق للحديث عن نظرية "الحرب البيولوجية".
واللافت أيضاً أن السياسي الروسي "إيغور نيكولين"، أوضح لوسائل الإعلام، أن واشنطن عملت على هذا السلاح البيولوجي وفق ألية لانتقاله إلى ايران، بُغية انهاكها اقتصادياً ومحاولة عزلها بالكامل عن محيطها، فضلاً عن رغبات امريكية تتمحور حول إحداث شرخ بين الشعب الايراني وحكومته، حيال الترويج بأن الاجراءات الصحية التي اتخذتها ايران لم تكن كافية لاحتواء كورونا، وبأن طهران هي المسؤولة عن تفشي الوباء محلياً في الداخل الإيراني وكذا عالمياً"، وبهذا، أصبحت هناك دولا تفرط في التشفي والنكاية ببعضها، وتثير حنق الشعوب على سلطاتها تحت طائلة الإهمال والتقصير.  
عودا على بدء، فإن صحت نظرية "تسييس فيروس كورونا"، يبقى أن نتسائل عن تاريخ بداية لجوء الدول لاستخدام أدوات الحرب الجرثومية: متى تم استخدامها لأول مره؟ وما الأدوات التي استعينت بها؟
ولوجنا لنشأة هذا النوع من الحروب، تظهر مؤشرات موثقة تدلل على أن استخدام الحرب البيولوجية يعود تاريخه إلى العصور القديمة، فالدراسات تشير إلى "استخدام الحيوانات النافقة لتلويث مصادر المياه، كما أن أفراد جيش السكيثيون، شعب بدوي ينحدر من أصول فارسية، غمسوا سهامهم في أجسام متحللة أو في دماء ممزوجة بالسموم في العام 400 ق.م".
الآشوريون كان لهم نصيب وافر في حرب الجراثيم، حيث وضعوا فطرًا سامًا يسمى (مهمان) في آبار المياه يصيب متناوله بالهلوسة، بينما تروي دراسات أخرى بأنه يعتقد أن "أول استخدام لذلك السلاح كان على يد القائد اليوناني سولون وذلك عام 600ق.م، حيث استخدم جذور نبات (الهيليوروس) في تلويث مياه النهر الذي يستخدمه أعداؤه للشرب مما أدى إلى مرضهم وبالتالي سهل عليه إلحاق الهزيمة بهم". كما تؤكد المصادر أنه "في عام 184ق.م استعمل "هانيبعل" الثعابين كسلاح، وذلك عندما ألقى أكياس مملؤة بالثعابين على ظهور سفن الأعداء، أدى إلى إصابة البحارة بالذعر والارتباك، وهو ما جرهم إلى الهزيمة".
وتشير الدراسات إلى أن المختصون بالمجال العسكري قد لاحظوا "أن عدد القتلى بسبب الأمراض المعدية يفوق عدد القتلى بسبب المعارك الحربية". وعلى سبيل المثال: "فقد اعتُبر الطاعون سلاحاً بيولوجياً منذ أن فتك في الفترة الممتدة من العام 1348 الى العام 1350، بما يزيد عن ربع سكان أوروبا، حتى أطلق عليه تعبير  الموت الأزرق".
وفي حقب التاريخ الإسلامي، استخدم السلاح البيولوجي ضد المسلمين خلال فترات الحروب الصليبية، وذلك عن طريق "إلقاء جثث الموتى المصابين بالأمراض المعدية داخل المعسكرات الإسلامية" بهدف نشر الأمراض الفتاكة مثل: الطاعون والجدري والكوليرا بين صفوف المسلمين".
كما لم تخلو الغزوات الاستكشافية من استخدام الاسلحة البيولوجية لإخضاع أصحاب الأرض وإذلالهم تحت السيطرة، ففي عام 1763م استخدم المهاجرون الأوروبيون إلى أمريكا بعد اكتشافها من قبل الرحالة كولومبس السلاح البيولوجي للتخلص من الأعداد الكبيرة من الهنود الحمر أصحاب الأرض الأصليين وذلك عن طريق نشر الأمراض غير المعروفة هناك، وقد كان لمرض الجدري دور هاما في القضاء على الأغلبية الكبيرة للهنود الحمر، حيث قدم قائد الحملة الإنجليزية السير جفري امهرست Sir Jefery Amherst، عام 1863 مناديل وأغطية مجلوبة من مستشفى العزل لمرضى مصابين بالجدري كهدايا إلى زعماء القبائل الهندية، ففتك المرض بالسكان الأصليين.
تلك "النجاحات التخريبية" في استخدام المواد الجرثومية، شجع القادة العسكريون لاحقا على الاهتمام بهذا النوع من التكتيك العسكري، فبدأت أوروبا وأميريكا بعد الحرب العالمية الأولى إنشاء مختبرات ومراكز متخصصة لتحضير أنواع مختلفة من الجراثيم والفيروسات الصالحة للاستخدام كأسلحة بيولوجية، وقد تزامن ذلك مع إنتاج الأمصال واللقاحات والوسائل الطبية المضادة لها.   
من جانبها، أسست بريطانيا في عام 1941 م مركز أبحاثها للأسلحة البيولوجية في بورتن Porton، وجهزت قنبلة ممتلئة بالجمرة الخبيثة Anthrax Bomb، وألقتها في جزيرة جرينارد الأسكتلندية gruiinard ، وكان من نتائجها أن أدت إلى موت قطعان من الماشية، وإغلاق تلك الجزيرة كلياً عن التجوال، والسكن، وفي عام 1942 م أسست أمريكا أول مكتب لبحوث الحرب الحيوية تابع لوزارة الدفاع الأمريكية.  كما ألقت الطائرات علباً مليئة بالحشرات على الخطوط الدفاعية السوفييتية لنشر الأوبئة والأمراض والذعر وخفض الروح المعنوية، واتهمت كل من الصين وكوريا الشمالية أميركا باستخدام أسلحة جرثومية ضدها وذلك بين الأعوام 1950 والعام 1953، كما استخدمت أميركا الأسلحة الجرثومية خلال حربها ضد فيتنام".
وفي عام 1955، كتبت صحيفة بونجي شونجو Bungi Shungi ، اليسارية، أن اليابانيين كانوا يجرون تجاربهم على الأسرى في الحرب وكانوا يحقنونهم بجراثيم مرض الطاعون، والتيفوس، أو إعطائهم مواد غذائية أو مياه ملوثة بميكروبات الكوليرا.
ثم تطورت الحرب البيولوجية خلال الحرب العالمية الأولى حيث استخدم الألمان الجمرة الخبيثة والكوليرا وفطريات القمح وزعموا أنهم نشروا الطاعون أيضا في مدينة سانت بطرسبرغ بروسيا وأصيبت البغال في بلاد ما بين النهرين.  كما أن إسرائيل استخدمت السلاح البيولوجي ضد القرى الفلسطينية عام 1948، من خلال الفيروسات والبكتيريا المسببة للأمراض.
 وبعيدا عن مسائل التنظير، سياسية كانت أم دينية، ما يهمنا اليوم هو وضعنا كدول عربيه، تلتهي حكوماتنا بالحروب الطائفية الطاحنة، وتنشغل، أيما إنشغال، بصفقات التسلح على حساب الاهتمام بمجالات البحث العلمي، فأضحت إمكاناتنا العلمية الضعيفة جدا إن لم تكن معدومة لا تسعفنا في إنتاج وتصنيع لقاحات طبية نتفادى بها خطورة مثل هذه النماذج من الأعراض الصحية، بل الأدهى أن تخلو مخازن مؤسساتنا الصحية حتى من "علب كمامات مستوردة" تقي مواطنيها من خطورة مثل هذه الأوبئة.
قد ينظر البعض إلى أن مقال كهذا تكتنفه المبالغة والتهويل، لكننا نرتأي التعبير عن أوضاعنا بشفافية لأن هناك من "التهوين" ما يدعونا إلى التحرج من الخوض في نقاشه، والعمل بمبدأ "الوقاية خير من العلاج" مفاده توخي الحيطة والحذر من ما قد يحدث في قادم الوقت، وعدم استصغار الأمور والإستهانة بها وإن تماهى حجمها بحجم هذا الفيروس الذي أصبح ماردا، فأجبرنا كما أجبر مليارات البشر  ب"الإقامة الجبرية"، وأصاب العالم أجمع بالذعر وفوبيا التسوق.
 وفي ظل غياب أية مؤشرات مخبرية للوصول إلى علاج يتفادى خطورة هذا الفيروس يتاح للجميع استخدامه، نتسائل: ما نوع الاستراتيجيات العملية التي تعيننا على إدارة الأزمات الصحية وتجاوز هذه الأزمة بالذات بأقل الأضرار الإنسانية مهما بلغت التكاليف المادية؟ أين يكمن دور مؤسسات البحث العلمي؟.
وأخيرا وليس اخرا: بعد إدراكنا بأن فيروس كورونا الذي لا يمكن رؤيته بالعين المجردة، قد أنهك الدول العضمى قبل الصغرى، مترجما ترجمة حرفية بما ذكر في الأثر الأدبي: "إن البعوضة تدمي مقلة الأسد"، نتسائل: هل سنبقى كعادتنا في وضع المتفرج تقتصر مواجهتنا لذعر إنتشار الفيروس بالإمتناع عن المصافحة، والإبتعاد عن المعانقة؟ ونلتزم فقط، إمتثالا لما توصينا به فرق المتابعة الصحية ببلداننا العاجزة عن تقديم الحلول العملية، ب"غسل أيادينا بالماء والصابون...؟"!

هناك 3 تعليقات:

  1. ما شاء الله عليك استاذ يحيى، إبداع..و عمل زاخر بالمعلومات الشيقة.. بالتوفيق دائما

    ردحذف
    الردود
    1. تسلم أخي محمد، شكرا على هذا الإطراء

      حذف

خور الملح موطن الذهب الأبيض

  تدوين: يحيى السلماني مع بداية فصل الصيف التي تمتد من مايو حتى شهر أكتوبر تنشط وتيرة انتاج الملح بالطريقة التقليدية في ولاية قريات. وبنهاية...