تدوين: يحيى السلماني
لأسبابٍ متعددة، من بينها الذُعر
الإقتصادي الذي تسبب به
فيروس "كورونا" (كوفيد-19 )،
إنهارت أسعار النفط، وأرتفعت أسعار المواد الغذائية، وقد كان للبصل نصيبه من
إرتدادات هذا الفيروس، فقد حازت تغريدة
تذمّر أحد المواطنين من إرتفاع تسعيرة "جونيّة البصل"
المُبالغ بها في سوق الموالح المركزي على انتشارٍ واسعٍ في محركات التواصل
الإجتماعي، وباتت أخبار هذه التغريدة حديث الساعة، ثم دخلت بمتابعيها في سياقات
أخرى من السخرية على "كورونا" والتهكّم على جهات الاختصاص، وهو ما اضطر المسؤولين
في الهيئة العامة لحماية المستهلك إلى تخصيص زيارة ميدانية للسوق المركزي لتحرّي مصداقية
التلاعب في أسعار الخضروات والفواكه، رافقها تغطية تلفزيونية كان المراد منها امتصاص
"سخط" الشارع العام.
وفضلاً عن أن البصل يدخل في أهم وجباتنا
الرئيسية، فهو حسب النتائج الصحية يتمتع
بمكانته الإستثنائية في الطبين الشعبي (القديم) والحديث، فالبصل يُسهم في"
تقوية الجهاز المناعي للجسم وله القدرة الفائقة على قتل الفيروسات والبكتيريا
باعتباره يحتوي على نسبة هائلة من مضادات الأكسدة"، كما يتساوى البصل مع
الثوم باعتبارهما "علاج سريع وقوي لنزلات البرد والأنفلونزا، وهما بهذا
يحاربان مختلف أنواع العدوى والفيروسات".
في الجانب الأخر، هناك ما يعزّز أهمية
البصل في مجتمعاتنا، ألا وهو "المعتقد الاجتماعي" المتوارث والذي يلعب،
في رأينا، دوراً هاما في حيازة خبر ارتفاع أسعار البصل في سوق الموالح المركزي على
مساحة واسعة بين مختلف التغطيات الإعلامية. فلا يزال المثل العماني: "كل من
البصل ما حصل، و من الثوم ما تروم" يُتداول
بكثرة بين الأوساط الإجتماعية، وإن كان المثل الشعبي عادة ما يكون وسيلة للنصح والإرشاد،
فهو لدى الشريحة العريضة للمجتمع يمثل صواب الرأي وصحة محتواه.
وقد عهدت شخصيا أثناء جلوسي مع والديّ،
رحمهما الله، أنهما، في غالب الأحيان، لا يمكن أن يتحدثا دون الإقتباس من قائمة الأمثال
الشعبية بما يتوافق وينسجم مع نوع الموضوع اللذان يتحدثان عنه، فتأخذ الأمثال خلال
حديثهما حيزاً كبيراً، وقاعدة أساسية للإقناع والتوجيه، ولم يكن المثل العماني
الدارج الانف الذكر "كل من البصل ما حصل" غائباً عن حديثهما حينما يتوجب النصح
بذلك.
والعمانيون ليسوا الوحيدون ممن يكنّون
للبصل أهمية خاصة في تراثهم الشعبي (الصحي والثقافي)، فهو – أي البصل – يبدو أن
تاريخه طويل جدا، ضاربا في أقدم الحضارات الإنسانية، ففراعنة مصر قدّسوه، "وكانوا يحلفون ويقسمون به، ويخلّدون
إسمه في نصوص جدران المعابد وأوراق البردى، وكانوا يضعونه في توابيت الجثث المحنطة،
لاعتقادهم أن البصل يساعد الميّت على التنفس عندما تعود إليه الحياة، ومن اللافت
للنظر في تاريخ الحضارة المصرية القديمة، أنهم كانوا يحرّمون تناوله في الأعياد لئلا
تسيل دموعهم، إعتقادا منهم أن الأعياد للفرح ليست للبكاء، وكان الأطباء ممن عايشوا
حضارة الفراعنة يضعون البصل في أولويات القوائم العذائية التي كانت توزع على العمال
الذين ساهموا في بناء الأهرامات ليمنحهم القوة والبأس".
وللبصل مكانة خاصة عند العرب، ويذكر داود
الأنطاكي، أحد علماء الطب والصيدلة البارزين في القرن السادس عشر، في كتابه "التذكرة":
أن البصل "يفتح السداد، ويقوي الشهية، ويذهب اليرقان والطحال، ويدر البول والحيض،
ويفتفت الحصى..."، وأكد ابن سينا،
أمير الاطباء، في كتابه "القانون": "أن بذر البصل يذهب البهق، وهو بالملح
يقلع التآليل، وماؤه ينفع الجروح الوسخة وإذا سُعط بمائة نقى الرأس، ويقطر في الإذن
لثقل الرأس والطنين والقيح في الأذنين"، وتبيّن تحاليل الطب الحديث أن "للبصل
مفعولاً واضحاً في قتل جراثيم التيفوس".
بعد أن أدركنا الأهمية الكبيرة التي
يحظى بها البصل قديما وحديثا، نرى أن إكتناز محتوى موروثنا الشعبي العربي بالبصل يعود
إلى تناقل أهميته الغذائية في الحضارات التي تعاقبت علينا، ومن يسبر أغوار أمثالنا
الشعبية يجد بأن أهمية البصل لا تقتصر على فوائد مادته الغذائية والصحية الفعالة،
بل يجد أيضا أن لسمات رائحته كانت وما تزال عند العرب وجبة دسمة للسخرية والتهكّم،
لها دلالاتها ومعانيها المتباينة تتفاوت بين أفراد المجتمع حسب خلفيات خصوصياتها
الثقافية.
يقول الأصمعي وقد سأله الرشيد عن حقيقة
العشق: "إنه شيء يذهل القلب عن مساوئ المحبوب، فيجد رائحة البصل من المحبوب
أعظم من المسك والعنبر"، ويقول الأديب أنيس منصور ساخرا: "الحياه مثل البصل،
قشره تحت قشره، ولا شيء في النهاية إلا الدموع". وفي البصل يتمثل أبناء الشام: "أبوك بصل وأمك
التوم، منين لك الريحه الطيبة يامشئوم"، وفي هذا المثل دلالة على أن الإنسان
سيء القول والفعل لا يمكن أن تنتظر منه الشيء الحسن، كما أن المثل المصري: "افتكر
لك إيه يا بصلة، وكل عضة بدمعة"، ويضرب المثل العربي الشائع: "بصلته محروقة"
في من لا يتحلى بشيمة الصبر، ويتصف بالتسّرع.
نحن هنا نفضّل أن ننأى بأنفسنا عن ما ورد
في مداخلات منصّات التواصل الإجتماعي، إستجابة للمثل القائل: "لا تدخل بين البصلة
وقشرتها"، فارتفاع أسعار "جونية البصل" وهبوطها لها من يتابعها
ويراقب مؤشراتها، وأصحاب الشأن، في مكاتبهم ومنازلهم، لهم أحقيّة الحديث عن الية
إدارتها، ألا أننا نود أن ندوّن فقط أن لا تتغافل الجهات المعنية الإستفادة من
معطيات الطبيعة التي وهبنا الله إياها، إذا
ما علمنا بأن مساحة الأراضي الصالحة للزراعة بالسلطنة، حسب إحصائيات وزارة الزراعة
والثروة السمكية، "تبلغ نحو (2.2) مليون هكتار، وتشكل نحو 7% من المساحة الكلية
للسلطنة"، كما توجد أكثر من 3433840
من الحيوانات (جمال، أبقار، ضأن، ماعز)، في الجانب الاخر، تزخر بحارنا بتنوع ثرواتها
البحرية، فقد تم تسجيل "أكثر من 1022 نوعاً من الأسماك العظمية والغضروفية، وحوالي 252 نوعاً من المحاريات، و60 نوعاً من السرطانات
البحرية" والبحوث ما تزال مستمرة لتسجيل أنواعاً جديدة من الكائنات البحرية في
المرحلة المقبلة. هذه المؤشرات الأوليّة التي تؤكدها الجهات المختصة تبدو لنا
مبشرة بالخير، إذا ما أمعنّا الجديّة في دعمها باسترتيجية مدروسة تفي بالعمل على تأسيس
"إستثمار غذائي" ناجح.
حقيقة ما يثير الغرابة هو: ما الذي جرّنا،
ويجّرنا على مدى عقود، لاعتماد أسواقنا على إستيراد مختلف الأنواع من الخضروات
والفواكه والأسماك واللحوم والألبان المُبسترة بمشتقاتها؟ وفي
ظل توفر مساحات جيدة صالحة للإنتاج الزراعي والحيواني والسمكي، نتسائل: لماذا حجم إنتاجنا
المحلي لا يكفي لتغطية الطلب المتزايد في الأسواق المحلية؟
قبيل عامين تقريبا، أُنيط بشق الأمن الغذائي
إلى وزارة الزراعة والثروة السمكية لإنشاء "مؤسسة قابضة للاستثمار الغذائي"،
تُعنى بتجهيز ومعالجة الخضراوات، وتعليب المأكولات البحرية، وإنشاء مزرعة ألبان متكاملة،
ومشروعان لإنتاج اللحوم البيضاء والدواجن، وتطوير منتجات التمور... وغيرها من
المشاريع التي تعد بالنسبة لنا كمواطنين "تطلعات" نتمنى أن تتحقق على
أرض الواقع في القريب العاجل.
وحتى لا تضيع "تطلعاتنا" تلك
في مهبّ الريح كما ضاع قبلها ما ضاع من "التطلعات"، نرتئي أن كل ذلك لا
يمكن إنجازه إلا بوجود رغبة صادقة، "فليس شيئ أنفع للعبد من صدق العزيمة والصدق
في العمل"، كما نرى أهمية إنشاء قاعدة بيانات تتضمن معلومات وأرقام حديثة،
وتوفير المناخ المناسب لإقامة مختلف المشاريع الإنتاجية، بواسطة إصدار تراخيص
استثمارية ميّسره، وأن نحرص على معالجة التحديات، وتقييم الإنجازات المتواضعة التي
تحققت سابقاً وتطويرها من خلال الإطلاع على تجارب ناجعة لعدد من الدول الشقيقة
والصديقة التي لا نظن أنها ستتردد في دعمنا ب"بيوت خبراتها" في هذا المسار.
فصل القول: ماذا لو أطال الله أمد محنة
فيروس كورونا؟ هل سنعود لأكل "التوت والمتوت" كما يشاع بالدارجة؟ حتى
يكتب لنا النجاح لاجتياز ما نعاني منه اليوم من إرتفاع أو التلاعب في تسعيرة
المواد الغذائية، وتجنّب نقص مثل هذه المواد مستقبلا، فقد حان الوقت للاعتماد على
إمكانياتنا، لأن نعم الطبيعة العمانية بموارد برها وبحرها ما تزال بكراً، ولدينا من الكوادر الوطنية ما يكفي لإدارة مثل هذه المشاريع
الوطنية، ويكفينا من أن نستورد الموز من الفلبين، وحبة الليمون والخيار والجزر
والطماطم من فيتنام وتايلند، ونستجلب المانجه من شبه القارة الهندية وجنوب
أفريقيا، وثمار البصل والرمان من اليمن وإيران، والبرتقال والعنب والفراوله من
بلاد الشام وشمال أفريقيا، ونأتي بالدجاجة من البرازيل، ونشحن الماعز من الصومال،
وننتظر الخروف من أستراليا، والتونه المعلبّة من أمريكا، والقائمة تطول ...!
هذا ناهيك عن أن من يقف على تسويق جميع
هذه المنتجات بهذا السوق المركزي الذي أنشئ لرفد الإنتاج الوطني هم عمالة وافدة،
لم نجد لذلك ما يبرره، في ظل تفاقم أزمة البطالة وتسريح المواطن العماني من رأس
عمله، وأخيرا وليس اخرا، لنا في مقولة الأديب العربي الراحل، فيلسوف الكلمة
والريشة، جبران خليل جبران دروس وعبره: "لا خير في أمة تأكل مما لا تزرع، وتلبس
مما لا تخيط، وتشرب مما لا تعصر"، ولأصحاب القرار بحكومتنا الرشيدة واسع
النظر...!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق