تدوين: يحيى السلماني
لم يكتفي فيروس "كورونا" (كوفيد – 19) بزهق أرواح البشر،
وعزل الوسط الإجتماعي عن مزاراتهم الدينية وفصل المدرسين قبل الطلبة عن مؤسساتهم التربوية،
وفرض الإقامة الجبرية والإنصياع إلى تطبيق
سياسة "التباعد الإجتماعي" بين أفراد الأسرة الواحدة، بل تعدّى ذلك لتلامس
تأثيراته المباشرة عرش "صاحبة الجلالة"، فأوقف دورة محركّات المطابع الصحفية،
وباتت أرفُف المنصّات التجارية خالية من أي نوع من الصحف والمجلات المطبوعة.
وعلى وقع حالة "الذبول المتدّرج" الذي تعيشه الصحافة المطبوعة
(الورقية) بالسلطنة، فقد طوت بعض الصحف أشرعتها منذ سنوات، ويبدو أن ما تبقّى من "رفيقاتها
القلائل" ستسلك ذات المسار لا محاله، فأزمات الصحافة المطبوعة (الورقية) قد
بدأت تتوالى في السابق الواحدة تلو الأخرى لأسباب تذبذب أسعار النفط، وازدهار ثقافة
منصات التواصل الإجتماعي على الإنترنت، وبهذا كان من الملحوظ أن تشهد صحافتنا
المطبوعة (الورقية)، خصوصاً خلال العقد الأخير، تراجع ملحوظ في أعداد نسخها، فتقلّصت
جغرافية توزيعها، وعانت من انخفاض معدلات الاشتراكات ونسب الشراء، ولم يقوى بعضها
على مواجهة تكاليف الطباعة والورق والأحبار التي تتزايد أسعارها عالمياً يوماً بعد
يوم، ممّا ترتّب عليه تسريح بعض موظفيها، وتقليص عدد صفحاتها، وغياب مُستكتبيها، فأثّر
كل ذلك، بدون شك، على مستوى مضمون مادتها التحريرية، وبهذا أضحى من غير المنطقي توفّر
الصُحف المطبوعة، في حين أن " 90% من محتواها يتوفّر مجاناً قبل نشره بيوم كامل"،
لذا، انحصر الاهتمام بها فقط في
دوائر العلاقات العامة والإعلام بالمؤسسات الرسمية التي، رُبّما، كانت وما تزال
المصدر الأول لتمويلها وتأمين بقائها.
اليوم يأتي فيروس "كورونا"
ليستكمل دور المواقع الإلكترونية ضدّها، فتكسب هذه الأخيرة رهان المنافسة. ويبدو أن قرار تعليق إصدار الصحف الورقية، وإن
كان في مثل هذه الحالة الإستثنائية مقبولا، يُعدّ بمثابة إطلاق "رصاصة الرحمة"
عليها، باعتبار أن التجربة الحالية أعطت مؤشرات واضحة تُدلّل على أنه أصبح بالإمكان
الاستغناء عنها لمدة شهر أو أكثر دون وجود أيّ عثرة تُحد من تدّفق المادة الإخبارية
(المعلوماتية) وانسيابية تداولها والتفاعل معها في ان معا.
في المجمل، فإن تسارع "التكنولوجيا الرقمية" دفع كبريات الصحف
الورقية في العالم منذ سنوات إلى الإغلاق، وأصبح غالبية الناس يستقون الأخبار من المواقع الإلكترونية، مؤذناً بخفوت
وهج الصحف الورقية، منها على سبيل المثال لا الحصر: جريدة بوسطن غلوب وأنجلوس تايمز، ومجلة تايم الأمريكية،
كما أن بعض المؤسسات الصحفية التي لم يهُن عليها فقدان نسخها الورقية، اتجهت
طواعية إلى إنشاء مواقع إلكترونية لجرائدها تتضمن
ذات المحتوى كخيار اخر للبقاء، مثال ذلك ما أعلنت عنه إدارة جريدة "صوت
الأزهر" التي حجبت نسختها الورقية "مؤقتا"، ووفّرت إدارة
تحريرها سياسة "العمل من المنزل"، مع التوسُّع فى تقديم الخدمات الإلكترونية
للآلاف من المشتركين والقُرَّاء في مصر والعالم الإسلامي.
ولمواجهة ذات الظروف، فقد أعلنت عدة صحف فرنسية وبلجيكية عن تدابير تركّز
على النسخ الرقمية، من بينها صحيفتي "20 دقيقة"، وصحيفة "المساء الواسعتي
الإنتشار، وأتاحتا الولوج مجاناً إلى المحتوى المتعلّق بأخبار وتقارير الوباء الجديد
على مختلف منصاتها الرقمية. وفي أميريكا التي تُصنّف أحد أكثر الدول تضرراً بفيروس
"كورونا" في العالم، شهدت صحافتها هزّات أدت إلى تقليص ملحوظ في عدد المطبوعات
على غرار ما أعلنته مؤسسة "ميركيري" للنشر عن وقف نشر صحيفتها البديلة "بورتلاند
ميركيري"، ذات الحال لحق بصحيفة "ذا كولومبيان" التي قلّصت طاقمها في
ظل انخفاض الإعلانات نتيجة الوضع الصحي الذي أربك مختلف مؤسسات الدولة.
اليوم، وللتجاوب مع إرشادات "خليّك في البيت"، ومراعاة لسياسة
"التباعد الإجتماعي" التي فرضها "كورونا"، باتّت منصات
التواصل الإجتماعي مثل: تويتر، فيس بوك، واتس اب، إضافة إلى فصائل متنوعة من المدونات الإلكترونية تلعب دوراً
إستثنائياً في نشر المعلومات وبث الأخبار بسرعات فائقة أكثر من أي وقت مضى، وتعدّد هذه المنصّات أضحت، بدون أدنى شك،
الوسيلة الأولى لنا "كعمانيين" لتلقّي الخبر الصائب والرسائل التثقيفية
الصادرة عن جهات الإختصاص، وتُصنّف الوسيط الأنسب لمتابعة تطّور الفيروس وقياس حجم
انتشاره على المستويين المحلي والدولي. ولأهميتها، فقد تحوَّلت هذه المنصّات،
بالنسبة للكثيرين، إلى "فضاء تفاعلي" يُعبّر فيه بعض الصحفيين بما فيهم المدوِّنين
والمغردّين عن رؤيتهم بحريّة أوسع، بعيداً عن قيود حرّاس "البوابات
الإعلامية" التي ما تزال المؤسسات الصحفية تُمارسها.
في الضفة الأخرى، وبحكم مُتابعتنا اليومية "اللاهثة" لمنصّات
التواصل الإجتماعي، نلمس أن ما يُعيب هذه الوسائط الرقمية اعتمادها في أحايين
كثيرة، على أساليب الإثارة، فوفّرت، بكل
أسف، مساحات واسعة لنشر الإشاعات، وبث رسائل مُفبركة، بل تعدّى ذلك إلى التجرؤ لانتهاك
خصوصيات حياة الناس، وشجّع محتوى بعض هذه المنصات، في حالات كثيرة، على "إلهاء"
المتلقي عوضاً عن إمداده بمعلومات قيّمه وحقائق موثّقة تتزامن مع وتيرة الأحداث
الراهنة.
وبذلك أصبح محتوى (مضمون) هذه الوسائط فارغاً
مُبتذلاً مُفتقداً لقيمته الإخبارية، فالمنتسبين لبعض هذه المنصّات هُم من
"صحافة الهواة"، وبحساباتهم الرقمية، باتوا يبحثون عن تحقيق "السبق
الصحفي" وإن غابت عنه الدقّة والموضوعية، كما لا يتوانون في انتهاج أساليب
الابتزاز والتشهير، كل ذلك بهدف "التربّح" وفي أحيان أخرى رُبما
"للتشّفي"، وهو ما أفقد مضمون
الرسالة الإعلامية في عدد من المدونات والمنصات الرقمية مصداقيتها ونزاهتها، وغيّب
موضوعيتها، وأضحت بعيدة، كل البعد، عن التزامها بأدنى معايير الأخلاقيات المهنية للصحافة
والإعلام.
وتبعاً لذلك، كان لا بد من الجهات الرسمية بالسلطنة أن تُفعّل، في
المقابل، أدوار منصاتها الإلكترونية لتتصدّر المشهد المعلوماتي، وتسعى بمنصاتها
جاهدة لدرء الشائعات حول ما يثار ويقال عن الفيروس "كورونا"، كما تعمل
هذه الجهات، في ذات الوقت، على توسيع قاعدة برامجها التوعوية قدر الإمكان، وقد حذرت الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، في وقت سابق، من نشر أو بث الشائعات والأخبار الكاذبة
والمشكوك في صدقيّتها.
فصل القول: فرضت المواقع الإلكترونية ومنصّات التواصل الإجتماعي
نفسها، مع اختلاف الظروف، وقد أسهم "كورونا"، باعتباره جزء من هذه الظروف،
في تعزيز دورها، وهذا يؤكّد ما كان يؤمن به الفيلسوف "مارشال ماكلوهان" الذي
أشار في عام 1964م بأن "الاختراعات التكنولوجية المهّمة هي التي تؤثر تأثيرا أساسياً
على المجتمعات"، فالرصد الذي اتبعه "ماكلوهان" في تطّور المجتمعات وتحولّها
من الثقافة الشفهية إلى اللغة المكتوبة ومن الثقافة المكتوبة إلى الثقافة الإلكترونية
جعله يتصّور أنه أدرك نهاية هذا التطور باكتمال بناء "القرية العالمية" التي
تتوّحد فيها حاجات الناس ومتطلباتهم إلى جانب وعيهم ومواقفهم ورؤاهم وربما مشاعرهم
حيال الآخرين والأشياء...!
حتماً ستتلاشى "رائحة حبر" الصحف المطبوعة (الورقية)، وسنفتقد
رفقة "صاحبة الجلالة" التي عهدناها لعقود في منازلنا ومكاتبنا ومجالسنا،
ها نحن نودّعها بعين حانية، وقلب مُتحرّق. على المستوى الشخصي، وعلى الرغم من أنني أنتمي إلى "جيل الصحافة المطبوعة"
قارئا قبل أن أكون كاتباً لما يربو على رُبع قرن، فإنني أجد نفسي مُستجيباً، دون تذمّر، للتغّير
الطبيعي الذي يفرضه واقع اليوم، مؤمناً بأنّ الوقوف أمام عجلة "الثورة
التقنية" يبدو كمن "يعوم ضدّ التيّار".
وبهذا، ليس لنا في هكذا ظروف إلا أن نلتمس من "صاحبة
الجلالة" العُذر، متعهدّين ببقاء "حبل المودّة بيننا موصول" وإن حاولت
"الصحافة المرقمنة"، قبل "كورونا" قطعه، ويحدونا الأمل في أن تلعب
"الصحافة المرقمنة" دور "المُكمّل" لما أسسّته "صاحبة
الجلالة" لقرون مضت منذ بدء مشوارها الحقيقي في أوروبا (ألمانيا) في مطلع القرن السابع عشر الميلادي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق