تدوين: يحيى السلماني
من تسنح له الفرصة لقراءة قصة "النورس
والقط الذي علمه الطيران" للأديب التشيلي لويس سبلبيدا يدرك أنها ليست مجرد
قصة مثيرة مليئة بالأحداث الساخنة التي تجذب قارئها من سطور صفحاتها الأولى، فهذه
الحكاية التي توقظ الطفولة السحرية النائمة، تأتي إيفاءً للوعد الذي قطعه الأديب
التشيلي على نفسه حينما وعد أبناءه ذات يوم بأن يكتب لهم قصة تشرح "المعاملة
السيئة التي نتعامل بها نحن البشر مع محيطنا ، عندما نُخرّب الطبيعة وبالتالي نُخرّب
أنفسنا"
ولم تكن هذه القصة المتميزة بدلالاتها
العميقة محاولة من الأديب التشيلي "لأبتكار" دعابة جديدة يخدع بها
أبناءه الصغار ليغطّوا في نوم عميق، بل تحمل بين طياتها رسالة إنسانية نبيلة
مفادها أولا: أن الحفاظ على بيئتنا البحرية وعناصرها الطبيعية مسؤولية جميع فئات
المجتمع، صغارا وكبارا، نساء ورجالا، أما ثاني أهدافها فيتمحور في أن هذه القصة
التي تحكى وقائعها بألسنة الحيوانات، وبالتحديد بين حيوانين متناقضين " قط
وطائر"، توضّح بشكل جلي إمكانية تحقيق أحد "المعادلات الصعبة" التي
لم تتحقق بعد على يد الإنسان الموهوب بنعمتي العقل والحكمه.
تتلخّص أحداث القصة في سقوط أحد طيور النورس
"كنغه" في مياه البحر، بعد مشوار طويل من الطيران، بهدف الاستلقاء
والتقاط الأنفاس، ألا أنها فوجئت بأن محطة الأسترخاء هذه كانت ممزوجة ببقعة زيت
كبيرة فرّغتها أحد بواخر النفط الضخمة التي تقذف بالبحر آلاف الليترات من مادتها
الوبائية اللزجة، فالتصق النفط "اللعين" بريش ذيلها، وهو ما قلل من
قدرتها على الطيران. توصف الحكاية النورس في هذه الوضعية كالتالي: "راحت تخفق
بأجنحتها بيأس، فثقل طبقة النفط لم يكن يسمح لها بالطيران"، وبعد مسافة ليست
بطويله ثقلت حركة جناحيها وبطئت سرعة طيرانها، وبهذا لم يطاوعها جناحاها في متابعة
الطيران، فسقطت بالقرب من "ثورباس" وهو قط كبير لونه أسود وسمين.
وأثناء احتظارها، وهي تلتقي
ب"ثورباس" نعبت النورس متشاكية: " لقد أدركتني موجة سوداء، الوباء
الأسود، لعنة البحار، سأموت!!!!" ويحاول في هذه الأثناء "ثورباس"
جاهدا أن يهدأ من روعها، ويتعاطف معها محاولا مساعدتها بشتى الطرق والوسائل،
بقوله: "إرتاحي قليلا، وسترين كيف ستسترجعين قواك" ، بعد أن تيقنت
النورس بأن القط الأسود رغم ضخامته يحمل نوايا حسنه ، سألته عن إمكانية الإيفاء
بثلاثة وعود ، فأوصته قائلة: " عدني بأنك لا تأكل البيضة، عدني بأنك ستعتني
بها إلى أن يولد الفرخ، وعدني بأنك ستعلمه الطيران"، وفي اللحظة التي تلفظ
فيها النورس أنفاسها الأخيرة "تدحرجت بيضة بجانب جسدها المتشرّب
بالنفط".
ورغم شدّة حُزنه، حرص القط "ثورباس"
على تنفيذ وعد النورس الأم، فاحتضن البيضة بحرص شديد خوفاً عليها من الكسر، واعتنى
بها رغم جهلة بالتعامل مع مثل هذا الوضع، حتى لا تلتهمها بقية الحيوانات، وهكذا
"راح يغفو تحت أشعة الشمس الدافئة والبيضة المنقطة بالأزرق ملتصقة ببطنه
الأسود".
وابتداءً من لحظات احتضان البيضة، ومروراً بتربية الفرخ الجديد وانتهاءً بمعاناة القط السمين "ثورباس" بتعليم
النورس "محظوظة" مهمة الطيران، خلال جميع هذه المراحل عاش
"ثورباس" أوضاعاً صعبه، تمثّل أولاها في عدم إلمامه بحياة الطيور، أما
ثانيها: فشغل القط السمين باله بالتفكير العميق في كيفية الحفاظ على حياة النورس
الصغيرة "محظوظه" بعيدة عن أي اعتداءات قد تسبّبه بقية الحيوانات، ففي
الأولى، استعان القط السمين بأصدقائه الذين عاونوه في تجميع البيانات الخاصة بحياة
الطيور بعد قراءة موسوعة علمية تشرح بالتفصيل حياة الحيوانات، أما طريقته في
التغلب على الصعوبة الثانية، فكان "ثورباس" محنكا في كيفية التعامل مع بقية
الحيوانات الطامعة في التهام البيضة، فحضانة البيضة لم تكن سهلة، حيث كان في كل
صباح يخبئ البيضة في "أصص
النبات"، ونجح "ثورباس" أيضا بتفوق في تتبع التعليمات الفنية،
وتعليم النورس الصغير "محظوظة" الطيران بعد عدة محاولات فاشلة، وفي
نهاية المطاف تحقق الحلم واستطاعت "محظوظة" الطيران في ليل
"هامبورغ" وهي تردد:" أنا أطير ياثورباس، أستطيع الطيران"،
عندها بقي "ثورباس" يتأملها ويترقب حركة طيرانها "حتى لم يعرف ما
إذا كانت قطرات المطر أم الدموع هي التي تبلل عينيه الصفراوين". إذن وفق
"ثورباس" القط النبيل من إداء مهمته، بل تفوق على نفسه بالإيفاء بوعوده
الثلاثة التي بدت له مستحيلة في الوهلة الأولى.
بعد هذا العرض المُقتضب لهذه الحكاية المليئة
بالتفاصيل، يتبيّن لنا بأن الطيور تأتي في مقدمة الأحياء التي تتأثر مباشرة ببقع
النفط، كما تبعث في نفوسنا – باعتبار أننا نعيش بأحد الدول الرئيسة المُصدّرة لهذه
الطاقة، ضرورة أخذ الحيطة والحذر من مغبّة تفاقم هذه الظاهرة التي بدأت تدق ناقوس
الخطر في سنواتها الأخيرة. تُؤكّد دراسات التحليلات النفطية على أن "نحو خُمس
إنتاج العالم من النفط يمرّ عبر مضيق هرمز، فالمُضيق يستوعب من 20 إلى 30 ناقلة
نفط يومياً، أي بما يُعادل ناقلة نفط واحدة في كل 6 دقائق مُحمّلة بنحو 40% من
النفط المنقول بحراً على مستوى العالم"، ولهذا،
يُنبّه تقرير المنتدى العربي للبيئة والتنمية إلى أن منطقة الخليج التي تستضيف
أكثر من خمسمائة نوع من الطيور، هي من "أكثر مناطق العالم تعرضاً للتلوث"
نظراً لتنامي المنشات البحرية وتوسّع موانئ تحميل الناقلات وارتفاع مستوى كثافة
حركة النقل البحري للمواد النفطية، فتنتج عن حركة النقل البحري بالخليج "تسرّب
حوالي مليوني برميل بترول سنوياً من التصريف الروتيني لماء الصابورة والمواد
الملوثة من الناقلات ومن حوالي 800 منصة زيت وغاز، ولا تقتصر مشاكل بيئتنا البحرية
على ما تفرغّه شاحنات النفط من سوائل، بل تشهد ممراتنا البحرية تهديدات مباشرة
بتعطيل شاحنات النفط عبر مضيقي هرمز وباب المندب، وتلوّح وسائل الإعلام بإعادة
سياسات "حروب الناقلات" التي نشبت في منتصف الثمانينات من القرن
المنصرم، إذا ما واصلت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها سياسات
"خنق" الاقتصاد الإيراني.
ولو على حساب التكرار، ولكن للأهميّة، فإننا
نشير في هذا الشأن إلى أن أكبر كارثة نفط بالتاريخ حدثت عندما غزا العراق الكويت
عام 1990م، حيث حُرقت "أكثر من 613 من ابار النفط وانفجرت 67 بئراً أخرى،
وقدّرت كمية النفط المحترق بما يعادل 8 مليون برميل ومائة مليون متر مكعب من
الغاز"، كما أن التلوث النفطي الناتج عن حرب الخليج "قضى على 52 نوعاً
من الطيور"، ناهيك عن تشويه المواقع الترفيهية الواقعة على المسارات الساحلية للمنطقة.
إن الحديث في هذا الشأن قد يطول إذا ما
أفسحنا الفرصة لتفاصيل تتعلق بمسار مضيق باب المندب عبر البحر الأحمر الذي يشهد هو
الاخر حركة ملاحية نشطة، حيث يسمح بتمرير ما يقرب من 11% من نفط العالم المحمول
بحراً، وقد أظهرت الدراسات البيئية أن "مُعدّلات الزيت في الكيلومتر المربع
المسجلة في بيئة البحر الاحمر هي أعلى منها في أي بحر إقليمي اخر"، وتواجه منذ
السنتين الأخيرتين تورّط المنشات وسفن ناقلات النفط بتفجيرات ملغومة لها من
التأثيرات المباشرة على عناصر بيئتنا البحرية ما لم يُفصح عنه بعد، وها هي الأخبار تتوارد اليوم بشأن غوّاصات للكيان الإسرائيلي تواصل عبورها قناة السويس باتجاه الخليج بتصريح "مصريّ"، إضافة إلى غوّاصة هجومية أمريكية ومدمّرتين تابعتين للبحرية الأمريكية تتجهان في المسار ذاته، بحجّة "ضمان أمن الممرات البحرية بالمنطقة"، لكن من الذي سيتكفّل ضمان حماية موارد بيئاتنا البحرية إن حدث مالم يُحمد عُقباه؟.
في رأينا، لم تقتصر هذه الحكاية على إشراك
أطفالنا الهم البيئي، الذي تعيشه مختلف دول العالم، بل توقظ عند الفئة الناشئة
والشابة والمنظمات الرسمية حب الانتماء إلى عالم الطبيعة بعيداً عن التلوث الحضاري
والانحطاط البشري، فطريقة سردها للأحداث سلس وشيق، وهي تمنح قراءها فرصة إطلاق
العنان ليتخيّلوا حجم الكارثة البيئية "الوباء الأسود" وأثرها على عناصر
بيئتنا البحرية الجميلة، كما تؤكّد القصة على ضرورة التضامن والحرص على اتباع مبدأ
التعاون ومنهج "العمل الجماعي" الذي دائماً ما يُقرن بالتوفيق مهما كانت
ظروف المُهمّه صعبه وقاسية، ويبقى على قُرّاء هذه القصة الرائعة تقصّي رسالتها البيئية
العميقة، والتمعّن في مضمونها الإنساني والأخلاقي الذي تحمله بين ثنايا سطورها.
لا فض فوك ...
ردحذفولا عاش شانئوك ...
ولا بُرَّ من يجفوك...
ولا عدمك محبوك...
ولا عاش حاسدوك...
تم معلم، كل الشكر ع الاطراءسل
ردحذف