السبت، 29 أغسطس 2020

الدجاجة التي تبيض ذهباً...!

 

تدوين: يحيى السلماني

وصف أحد المهتمين بقطاع السياحة البيئية أن الطبيعة التي تُفسح لنا مجالات التأمّل بمخلوقاتها، والتنّزه بين جنبات جبالها، ونغامر في بطون أوديتها، ونتشمّسُ على ضفاف أنهارها وبحارها، وتنشّط اقتصاد بلادنا، هي في مُجملها تحملُ مُقوّمات "الدجاجة التي تبيضُ ذهبا"، ويأتي هذا الوصف الذي شدّ انتباهي فور قرائته مبنيّاً على أن الطبيعة البكر تُعدّ مصدراً هاماً للكسب الفردي، ويسهم أيما إسهام في رفد الدخل القومي في البلدان التي تتمتّع بطبيعة غنّاءه مُثمرة في حال إستثمرت ثروات الطبيعة وفق استرتيجيات مدروسة وبطرق رشيدة ومُستدامة.

خلال الفترة التي قضيتها في العمل بالمؤسسات البيئية بالسلطنة منذ عام 1993م، بذلت قصارى جهدي لتطوير مهاراتي الفنية في مجال الصحافة البيئية، كما حرصت على الإلمام قدر الإمكان من محتوى العمل البيئي، ألا أنه بعد مضي ما يقرب من 23 عاماً، أو رُبما قبيل ذلك بسنوات، أُصبتُ بامتعاض إلى حد لا سبيل لوصفه، وبتُ أشعر بإشمئزاز لا يُمكن الصبر عليه، لأسباب منها الظاهر (معروف) ومنها الباطن (مُتستّر عليه) يطولُ شرح تفاصيله، ألا أنه يمكن تلخيص "امتعاضي" في أن بيئة العمل بمؤسسات هذا القطاع باتت، من وجهة نظري المتواضعة، مُملّة ومُمتلئة بمن لا "يُميّزون بين الغناء والمواء"، فاتخذت قراري النهائي بالإستقالة والفرار إلى بيئات عمل أكثر حيوية وأريحية، عملاً بوصيّة أديب وشاعر المهجر الذي أحببته، جبران خليل جبران،: "ليست قيمة  الإنسان بما يبلُغ إليه، بل فيما يتوق للبلوغ إليه"،  ثم نأيت بنفسي مُفضلّا، بعد 23 عاماً من العمل الرسمي، التفّرغ للعمل الحر، وخوض تجربة عملية وحياتية جديدة قد تمنحني حيّزاً من الاستقلالية.

ثُم بعدها مُباشرة أستأنفت عملي في عدّة أنشطة ومهن، كنت املاً وساعياً من أن أتمكن من الوقوف على رجلي وتحقيق نجاحي المأمول، ألا أن ظروف الوقت أدركتني، ومُتغيرات الأحداث تسارعت، فحلّت، خلال أقل من ستة أشهر من استقالتي، أزمة انخفاض أسعار النفط الحادّة، ثم ما لبثت تتردّى حالة سوق العمل وتتدحرج مؤشراته بشكل متسارع من السيء إلى الأسوأ، عندها وجدت نفسي وأنا أنتقل من نشاط عمل إلى اخر، كمن يصفه المثل المصري: "سبع صنائع، والوقت ضائع"، فلملمتُ أدواتي، وحزمتُ أمتعة "مُغامراتي" العملية الأولى تلو الأخرى، ثم راجعت نفسي، وحسبت تحركاتي، أدقّق طوال وقتي فيما الت إليه الظروف، وأبحث مُنفرداً ووحيداً عن حل "سحري" قد ينتشلني من مغبّة اثار الركود الاقتصادي الذي عانت منه، كما عانيت أنا، مختلف قطاعات العمل بالسلطنة.

 وبما أني أحد المُغرمين بالسفر والرحلات الاستكشافية (إن لم أكن مجنونا بذلك)، فسحتُ باكراً في ساحات كبريات المدن، وقضيتُ ليال بحالها أمخرُ عباب فضاءات البحار والمُحيطات، وتنزّهت في أروقة أشهر المتاحف وتمحلقت عيناي في مقتنيات أقدم القصور، وزرتُ وأنا مُمتلئٌ طهارة أنقى المساجد، وأعتق الكنائس وأشهر المعابد، وفي حالات نادرة سكنتُ الفنادق الفارهة، واكتريتُ، في حالات كثيرة، الأكواخ الصغيرة (الشاليهات)، وجربّت رياضة التسلق، ومارست الغوص مع السلاحف والحيتان، وخلال جولاتي، تلاطفتُ مع السائل، وأشفقتُ على صاحب العوز والحاجة، و"ياما" أُنتُشلت جيوب ملابسي أمام العامّة والخاصة في عزّ الظهيرة جهاراً نهاراً، وأنست بصحبة من أُحب، وتحملّت سُخط من لا أحب من بعض من التقيت بهم، وتقبلّت قُبح الاخرين، وخلال أسفاري اكتويتُ بوهج الوحدة، كل ذلك حدث لي، وما زلتُ تواقّا لخوض تجارب سياحية جديدة لأتمكن من اكتشاف المزيد من خبايا هذا العالم المتناقض بشجره وبشره، الملئ بالغرائب والغرائز والعجائب.

ذلك كله جرّني للبحث عن رواق عمل جديد، قريب من اهتماماتي، كنت مؤمناً بما قاله كونفوشيوس: "ليست العظمة في أن لا تسقُط أبداً، العظمة أن تنهض كُلما سقطت"، ولذا إرهاق البحث عن منافذ أخرى لتأمين لقمة العيش ذكرني مراراً بمقولة يوهان غوته (الأديب الألماني) التي تسدي النصح بأهمية المبادرة في العمل بما تحب، حيث ينصح قائلاً: "أي شيء يمكنك القيام به، أو تحلم بالقيام به، إبدأ به"،  فخطر ببالي التفكير بجديّة عن جدوى الاستفادة من خبراتي المتواضعة في مجالي السفر والسياحة، مؤمناً بأن "الخوف من الفشل يجب أن لا يكون حجة لعدم التجربة" كما يقول فردريك سميث.

لم يستغرق الوقت طويلاً حتى تحقّقت أمنيتي بعد أن اجتزت إختبار المقابلة الشخصية، فحصلت على "ترخيص" الإرشاد السياحي من جهة الاختصاص (وزارة السياحة سابقاً)، ثم أنشأت الموقع الإلكتروني الخاص بي، وتواصلت مع عدد من وكالات السياحة المحلية، وفي أقل من شهر، بدأت في جني بذرة غرسي الأولى، التي منحتني أيضا فرص لممارسة هواية السفر والتنقل ولكن هذه المرّة في شكل "الهرم المقلوب"، فبعد أن كنت سائحاً لافّاً ما يربو على 45 دولة في مختلف قارات العالم، سأصبح اليوم مُرشداً سياحياً، أستقبل الزوار من ردهات المطار، أرافقهم إلى مقار إقامتهم، ثُم أتكفّل بإرشادهم إلى مختلف الوجهات السياحية التي تخيّروها بأنفسهم.        

 ظروف عمل المرشد السياحي ليست بالأمر السهل كما قد يتوقعّه البعض، وأنا كُنت أحدهم، فالمُرشد السياحي، علاوة على لياقته البدنية (الصحية)، فهو بحاجة إلى قدر جيد من المعرفة والثقافة، وحتى يتمكن من تقديم "وجبته المعرفية" بشكل يليق بمستوى السائح، يكلفّه تجميع "ذخيرة" واسعة من المعلومات الدقيقة في مختلف المجالات: سياسية، تاريخية، إقتصادية، بيئية، مُناخية، إجتماعية، تربوية ...الخ، وبرغم كل ذلك، ألا أنني، بفضل من الله، ثم بفضل تعاون عدد لابأس به من زملاء المهنة، نجحت في ممارسة دور المرشد السياحي بحرفيّة، تفوقت في أحايين كثيرة على من خبروا هذه المهنة قبلي بسنوات، طفت خلال جولاتي عشرات من مواقع الجذب السياحي بالسلطنة، وأكثرُ ما حُظيت به هو الالتقاء بعشرات الجنسيات من السواح، خصوصاً أولئك القادمون من أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا، وهو ما وفّر لي فُرصة جيّدة لتبادل معلوماتي وإثراء واكتساب معارف جديدة عن بلدان العالم بلسان أهلها. 

أعرض تجربتي المتواضعة هذه ونحن ندرك بأنه لا يختلف إثنان على أن السلطنة تحظى بمقومات سياحية تنفرد بها عن غيرها من الدول، واذا كانت مقومات السياحة طبيعية وذات عراقة حضارية، فالسلطنة تملك ثروة مهمّة في هذا المجال، ولكن تبقى كيفية استثمار تلك المقومات واستغلالها لتصبح مصدر دخل وفخر للمواطن العماني، ولا يفوتنا الإشارة هنا إلى أنه لا بُدّ من تأهيل جميع المناطق ذات الجذب السياحي، خصوصاً تلك التي ما تزال تفتفقر إلى أدنى مستويات المرافق الخدمية، كما يتوجب من جهات الاختصاص النظر بجدية في تأمين حماية دائمة للمعالم التاريخية والمواقع الطبيعية حتى يمكن "استدامة" الاستفادة من جميع تلك المعطيات، ما نقصده هنا يجب عدم إغفال عملية تنظيم النشاط السياحي حتى لا يصبح أداؤه تدميراً للطبيعة  ومصدر تخريب لها.

أما الجانب الآخر الذي يشغلننا ذكره في هذه التدوينة، أنه في كل مرة تسنح لي الفرصة بالقيام بجولات لبعض من هذه المواقع الطبيعية بمختلف ولايات السلطنة، تنكشف لي آفاق سياحية جديدة تتنوع بين المواقع الأثرية العريقة وبين واحات الطبيعة العذراء التي وهبها الله بلادنا الغالية، وفي كل مرة أحظى فيها بمشاهدة تلك المواقع يمتلئ قلبي غبطة وسعادة، وأشعر بالزهو أمام من يرافقني من جملة السواح، ألا أنه وبقدر شعوري بهذه الفرحة، تعتريني في ذات الوقت غيرة ممزوجة بالتحسّر والألم، ففي غالب الوقت، خلال زياراتي التي أضحت متكررة وبشكل يومي لمختلف المواقع، نُفاجأ أن غالبية من يرتادوها هم من الُمقيمين أو مجموعات السياح الوافدين فقط، ولا ضير في ذلك ، فالُمقيم والسائح يلعبان دورا هاما في نقل الوجهة السياحية للسلطنة، وهو ما يُساهم أيضا في إثراء السياحة الداخلية وتنشيطها، ليصبح مجالها أوسع وأشمل، ولكن في ظل تمتّع السائح بهذه المناظر الخلابة والطبيعة البكر، يبقى العُماني "مُنعزلاً" عن الاستمتاع بمفردات تلك الطبيعة، وبعيداً عن التفاعل مع معطياتها حتى يصبح لدرجة أنه يجهل تلك المواقع وأهميتها التاريخية والبيئية، التي تُشكل مصدراً هاماً لتنمية المعرفة وتعزّز الثقافة الوطنية في هذا المجال.

في ظل إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، نحن "ربما" على مشارف رؤية تنموية جديدة للقطاع السياحي، قد تدفع بتطوير عجلة الأداء السياحي بالسلطنة لتُصبح مصدر جذب سياحي من "الدرجة الاولى" تُناسب مختلف الفئات العمرية، وفي ظل الاهتمام المتنامي لحكومة السلطنة لهذا القطاع، لا يفوتنا هنا أن نتوجّه بصوتنا إلى جميع جهات الاختصاص بضرورة أخذ الاعتبارات اللازمة، والاحتياطات الواجبة التي تُسهم في الحد من تدمير الموارد البيئية الاستثنائية التي تحظى بها السلطنة، ويبقى القول: أن إدارة المواقع السياحية بأسلوب حديث، وتنشيط السلوك الواعي لدى مرتادي هذه المناطق يُعدّ أولوية.

ندرك أن الجميع له حق الاستمتاع بالطبيعية مع الحرص على إبقائها بمنأى عن مخاطر التشويه والتلوث والتدهور والاستنزاف، وفي الوقت الذي بدأت فيه أجواء السلطنة بالتحّسن، و"التعافي" تدريجياً من أعراض "كورونا"، ها نحن ندعوكم لزيارة بعض من الوجهات السياحية الفريدة بالسلطنة لتحظوا أنتم أيضاً بنصيبكم الوافر من "البيضة الذهبية".   

 

 

الأحد، 16 أغسطس 2020

جمعية الغابات الطبيعية ... في انتظار الإشهار!

 

تدوين: يحيى السلماني

في الوقت الذي يواصل فيه مئات المتطوعين "ملحمتهم البيئية" لاستئصال نبتة "البارثنيوم" السامّة من مراعي محافظة ظفار، يدور الحديث حالياً عن الأسباب الكامنة وراء تأخّر الجهات المسؤولة عن إشهار "الجمعية العمانية للغابات الطبيعية" التي تم تأسيسها في عام 2009م بمبادرة فرديّه، أُسوة ب"الجمعية العُمانية لمزارعي الرمان بالجبل الأخضر" التي تم إشهارها عام 2014م والتي نجحت في تذليل الكثير من المعوّقات والمشاكل التي تعترض مزارعي أشجار الرمان،  وتتبنى أحدث التكنولوجيات في مكافحة الافات الزراعية التي تضرّ بهذه الشجرة التي تُقدسّها وتتبارك بها مختلف الأديان.     

وإن طالت المُدة لأكثر من عقد من الزمان، لم يتخاذل مؤسّسي هذه الجمعية منذ إنشائها للوقوف على مُطالباتهم المتواصلة بضرورة إشهارها، وهم ما زالوا يُتابعون مشوار مشاوراتهم بهمّة عالية، وبواسطة ووساطة المسؤولين عبر القنوات الرسمية بوزارة البيئة والشؤون المناخية ووزارة التنمية الاجتماعية ومجلس الشورى، ألا أن ردود جميع هذه المؤسسات التي كان اخرها شهر مايو من العام الجاري كما درجت العادة تشي  بالانتظار، وتنصح بالتريّث حتى يأتي الوقت المُخصّص لإصدار القانون الجديد للجمعيات العُمانية الذي لم تُحدّد أبعاده الزمنية بعد.   

توالت العقود، ومرّت السنين، ومساحات المراعي في محافظة ظفار تشهد انحساراً ملحوظاً وتتقلّص بشكل متسارع، وهو ما عرّض العديد من العناصر الطبيعية إلى الانقراض، فقدرة الأشجار على التكاثر الطبيعي وتكوين البذور قد تدّنت لتزايد مُمارسات "الرعي المُبكر والجائر واقتلاع الأشجار لاستعمالها في تجارة التحطيب وتوسّع النشاط العمراني"، ففي ثمانينات القرن المنصرم بدأت حالات استحوذ المواطنين على مساحات المراعي والغابات للاستخدام السكني، وتم توزيع الأراضي ب"عشوائية" في مناطق ريف ظفار، وقد أشرنا في سابق الوقت إلى الدراسة التي تبنّتها وزارة الزراعة والثروة الحيوانية قبل سبعة عشر عاماً والتي كشفت عن "وجود 5289 من التجمعات السكانية في المناطق الرعوية"، ما أدى إلى تحويل الغابات إلى مناطق جرداء، وازدياد معدلات التبخّر، وانخفاض مستوى المياه الجوفية، وتؤكد الدراسات الميدانية  أن الوضع الحالي لغابات ظفار يُنذر بالتصحر بسبب الرعي الجائر، حيث تتزايد أعداد الإبل "بنسبة 20% سنوياً، بينما تزداد أعداد الأبقار بأكثر من 30%، إضافة إلى انتشار الآفات الحشرية، وقلة الأمطار مما يؤدي إلى نقص المياه التدريجي وجفاف وتيّبس الأشجار المحلية" .

وما يضمن التأكيد على مصداقية تلك الدراسات  ما تشير إليه بنود الاستراتيجية الوطنية لحماية البيئة بالسلطنة التي تركّز على تناقص "مساحة الغابات الطبيعية في ريف ظفار إلى خمسة وثلاثين ألف هكتار، بما يُقدّر بنحو (140) مليون شجرة، كما أن غابات الريف الظفار تتدهور بما نسبته 7% سنوياً، الأمر الذي يعني خسارة نحو 80% من مساحة الغابات التي كانت موجودة في جبال ظفار قبل 22 عاماً". هذا يعني، حسب ما صرح به الدكتور محاد بن عيسى شماس، أستاذ مُساعد في قسم الهندسة المدنية والبيئية بجامعة ظفار، وهو أحد الخبراء المختصين بشؤن البيئة بالسلطنة في مضمون دراساته المستفيضه عن الوضع النباتي في ظفار أن هذه المساحة "تقلصت حالياً إلى (10) آلاف هكتار بما يقدّر بنحو (40) مليون شجرة محلية، وهو ما يُشير إلى أن الجهات الرسمية لم تتخذ أية إجراءات تصحيحية حقيقية لحماية الغابات من الرعي الجائر وتوسع النشاط العمراني في سهول وجبال ظفار، حيث تحوّل مئات الهكتارات من مساحة المراعي والغابات الطبيعية إلى استخدامات سكنية وبنى تحتية، فالدراسات تؤكد بأنه "قد تم تقطيع عشرات الالاف من الهكتارات، ولم يتبق من الغابات المحلية حالياً سوى نسبة 20% من الأشجار التي كانت موجودة آنذاك".

وقد أوصت الدراسة التي قام بها الدكتور محاد شماس بإيجاد حلول مستدامة تتمثل في "إنشاء هيئة لسن التشريعات اللازمة لحماية وإدارة واستخدام الغابات الوطنية، والعمل على استعادتها وتنميتها وصولاً لاستدامة المناطق الغابوية، وإنشاء هيئة تسويق الماشية للتقليل من عمليات الرعي الجائر بهدف العودة لأعداد الماشية كما كانت قبل أكثر من ثلاثة عقود"، ألا أن هذه التوصيات لم تجد كالعادة اذان صاغية حتى الان.

بعد كل ذلك، يُؤكّد الدكتور محاد عيسى شماس صاحب مُبادرة تأسيس "الجمعية العمانية للغابات الطبيعية" على ضرورة "إشهار" "جمعية الغابات الطبيعية"، وقد أشار خلال حديثنا معه في أكثر من مُناسبة إلى أن الهدف الأسمى لهذه الجمعية المُحافظة على المراعي والغابات وتقييم التغييرات في الغطاء الحرجي، وتسعى الجمعية إلى إعادة مستويات الغابات الطبيعية عن طريق إقامة أحزمة خضراء وحمايتها وتنميتها للوصول إلى استدامة المظلة الشجرية، ومن هنا سيتحقق هدف الوصول إلى التوازن البيئي بواسطة المُحافظة على التوازن الدائم بين إنتاجية المراعي وأعداد الحيوانات في المرعى، كما يُناط إلى هذه الجمعية إعداد وتنفيذ برامج لنشر الوعي وتعزيزه لدى مختلف شرائح المجتمع، علاوة على إفساح المجال وتوفير الدعم لجميع المختصين لنشر الأبحاث والدراسات التي تخدم أهداف الجمعية بالتعاون مع مختلف المؤسسات ذات العلاقة.

وترتكز استراتيجية هذه الجمعية، المُرتجى "إشهارها"، على إنشاء مشاتل لاكثار النباتات المحلية، ويطمح مؤسسّوها إلى زراعة ما يقرب من ثلاثمائة مليون شجرة خلال ثلاثين سنه، بواقع 2000 شجرة للهكتار سعيا إلى العودة لمستويات الكثافة النباتية للغابات الطبيعية في سلسلة جبال ظفارالى وضعها الطبيعي التي كانت عليه عام 1980م، كما ترسم استراتيجيتها إنشاء حديقة طبيعية في محافظة ظفار تضمّ ما يقرب من 750 نوعاً نباتياً كبنك وراثي محلي وذلك لحماية النباتات والتراث المرتبط في الاستخدامات التقليدية في الطب وتشجيع السياحة المُستدامة، ودعم مشاريع التقنية البيئية مثل مشاريع الري بالتقطير زراعة اشجار خاصة من الاشجار كالتي تستخدم كمصادر للادوية مثل شجرة الثوور (مادة الصمغ العربي).

 لا نتواني في ترديد ما نقلناه في تدوينات انفة من أن هناك ما "يزيد على (1295) نوعاً من النباتات تنبت في أراضي السلطنة، منها مايقرب من (136) نوعاً أو فصيلة نباتية مُهدّدة بالانقراض بسبب توسّع النشاط الحضري وانتشار النباتات الغازية (شجرة الغاف البحري ونبتة البارثينيوم التي تنتشر في مختلف محافظات السلطنة كنموذج، لم تتمكن جهات الاختصاص من إستئصالها منذ ما يزيد عن عشرين سنه)، وحسب البيانات الصادرة عن وزارة البيئة والشؤون المناخية، فإن السلطنة تأوي ما يقرب من (546) نوعاً من الطيور (مُقيمة ومُهاجرة)، منها ما هو مُعرّض للتهدديات كالعقاب الأسفح الكبير وملك العقاب والزقزاق والكروان ذو المنقار المستقيم و النورس أبيض العين وغيرها، بسبب سوء استخدامات الأراضي الرطبة وإدخال أنواع غريبة دون الحصول على تراخيص رسمية (مثاله: طائر المينه الإعتيادية الذي ما زالت أجنحة "قضيّته" تُرفرف بين مكاتب المختصين بوزارة البيئة والشؤون المناخية وأروقة مجلس الشورى منذ زمن، حالت "البيروقراطية" دون الوصول إلى حلول علمية للتخلص منه حتى وقت تدوين هذه السطور).

منذ سنوات، ولأسباب ضعف الدعم المالي كما يزعم القائمين عليها، أوصدت "جمعية البيئة العمانية" أبوابها في محافظة ظفار، وأُسدل الستار على نوافذها، فانحسر أدائها، وتوقّفت جلّ أنشطتها البيئية في المحافظة التي هي بحاجّة ماسّة إلى أدنى مُستويات الدعم البيئي (تطوعّي وفني)، خصوصاً وأن المُحافظة تستحوذ على نصيب الأسد (75%) من جملة عناصر التنوع الأحيائي بالسلطنة، وبهذا، وفي ظلّ هذه المُعطيات، لا نتردّد في أن نضمّ صوتنا مع أصوات إخواننا في محافظة ظفار التي ما تزال تنادي بإيجاد الحلول لمختلف الإشكاليات البيئية التي تعاني منها منذ عقود، وتطالب بتسريع الموافقة على "إشهار" هذه الجمعية التي ستمثّل - بدون أدنى شك - "الذراع الأيمن" لجميع المؤسسات ذات العلاقة بالشأن البيئي بالمحافظة، وما قامت به هذه الجمعية من جهود كبيرة منذ تأسيسها في عام 2009م وتقوم به اليوم من جهد تطوعّي، ومُثابرة ودعم فني مُتميّز في حملة اجتثاث نبتة البارثنيوم (الغازية) التي تُلاقي صدى واسعاُ في مُختلف وسائل الإعلام ومنصّات التواصل الاجتماعي يُعدّ مؤشراً حقيقياً يكفي لدعوة جهات الاختصاص النظر في مطالبات "إشهار" الجمعية بعين الجدّية، وللمسؤولين بمؤسساتنا الوطنية واسع النظر...!      

السبت، 15 أغسطس 2020

تحيّة لأبناء ظُفار

 

تدوين: يحيى السلماني

ما تقوم به الفرق التطوعيّة من جهود حثيثة لاجتثاث نبتة "البارثنيوم" في محافظة ظفار يدعونا جميعاً للتفاخر بمؤشرات مُرضية لما يوليه المجتمع المحلي من اهتمام، ونجاحها في إقناع المجتمع بمختلف شرائحه للمشاركة "طواعية" في مثل هذه الحملات التي تعود بالنفع على صحة الإنسان والبيئة المحيطة به.  

الناشط البيئي المُختص في مجال البيئة، على عكعاك، الذي نبّه، عبر وسائل التواصل الإجتماعي، عن الاثار الصحية والبيئية التي تسببّها هذه النبتة الغازية باعتبار أنها أضحت تُمثّل هاجسا يؤرّق بال المختصين بسبب انتشارها في سهول وجبال المحافظة، فهذه النبتة التي تتراوح جملة البذور التي تحملها –حسب ما خلصت إليه الدراسات العلمية- بين خمسة عشر ألفا إلى مائة ألف، وهي بهذا سجّلت نجاحاً كبيراً لاكتساحها مساحات شاسعة من البساط الأخضر بالمحافظة.  

هذه النبتة الدخيلة "الغازية" هي ليست الأولى من نوعها، فالدراسات البيئية تشير إلى أن السلطنة تعاني من جملة من أنواع النباتات التي تنتشر في ربوع السلطنة، من بينها على سبيل المثال لا الحصر: شجرة "المسكيت" والتي يطلق عليها محليا "الغاف البحري"، حيث تقدّر الدراسات وجود "ما بين 20 - 22 مليون شجرة،  وتتزايد سنوياً بمقدار 5%، وكل شجرة من أشجار "المسكيت" تنتج آلاف البذور سنوياً التي تنتقل عن طريق مجاري الاودية ومخلفات المواشي، وهي شجرة لديها القدرة على مقاومة جميع الظروف المناخية القاسية ما جعلها الأكثر انسجاماً مع طبيعة العديد من المناطق العُمانية".

نبتة "البارثنيوم" التي وصلت ظفار، حسب التقارير الرسمية، قبيل ما يقرب من عشر سنوات، لها نفس الاثار التي تخلفها شجرة "الغاف البحري"، فكلاهما تتنافسان على التهام الرقعة الخضراء، وتهددّان خصوبة الأرض، وتتسببان في إصابات صحية بالإنسان كالإصابة بالالتهابات الجلدية، وهما متسبّبتان في نفوق عشرات الحيوانات والطيور.   

لا يسعنا هنا، إلا أن نوجّه كلمة شكر لأبناء محافظة ظفار على الجهود التي يبذلونها بتفاني وإخلاص "لاستئصال" هذه النبتة السامّة، وكلنا أمل أن تتواصل مثل هذه الحملات التي تُسجّلّ مؤشراً حقيقياً لتنامي مستويات الوعي البيئي بمحافظة ظفار التي تستحوذ على ما يقرب من 75% من عناصر التنوع الأحيائي بالسلطنة.  

 

.

الثلاثاء، 11 أغسطس 2020

"جلّنار" رمز للحياة وفاكهة لأهل الجنة

 

تدوين: يحيى السلماني

قُبيل بضعة أشهر، كانت تجربتي الأولى في غرس شتلة لشجرة الرمان، ففي عصر كورونا، أصبح التفكير بقضاء أوقات الفراغ بشيء مفيد له ضروراته، غرستها دون دراية أو سابق خبرة في علوم الهندسة الزراعية، ها هي اليوم بدأت تزهر وتتلّون أغصانها بألوان حمراء قُرمزية جذّابة، في كل صباح وأنا أراقب نموّ أغصانها وتفتّح زهورها، تسترجع مخيلتي شجرة رمان كبيرة وارفة الظلال، تلك التي كانت تتزين بها واجهة بيتنا في عقد السبعينات من القرن الماضي، تلك الرمانة "المُعمّرة" التي كانت زاهية بزهورها، شهيّة بمذاق ثمارها، ما تزال مُلتصقة بذاكرة شقاوة الطفولة المليئة بالفرح والغبطة. وفي كل صباح وأنا أُراقب "فسلتي" الصغيرة الجميلة، تستحضرُ مُخيلّتي عشرات لمشاهد زياراتي المتوالية لسفوح وقمم الجبل الأخضر، أستذكر أطفاله ونسائه، شبابه ورجاله وهم يتشاطرون الحديث، ويتقاسمون الجهد في رحلتهم الموسميّة لاقتطاف ثمار الرمان في نهاية فصل كل صيف (سبنتمبر _ أكتوبر)، يملؤون أوعيهتم السعفّية والبلاستيكية بثمارها، ثم يفترش بعض منهم أرصفة الطرقات الداخلية المتعرجّة بُغية تسويق حصادهم المُثمر، مُستهدفين الزوّار الذين يقصدون قراهم الجبلية التي تجتذبهم من كل حدب وصوب.

العديد من الدراسات تؤكّد على القيمة الصحيّة والاقتصادية للرمان، ولكن قبيل الخوض في الحديث عن  أهمية هذه القيم، نرتأي إلقاء إطلالة سريعة على قيمتها في التراث الإنساني. في الوقت الحالي، تزدهرُ أغصان شجرة الرمان بالأزهار، وأزهارها هذه التي تتلون بلون قرمزي يُطلق عليها إسم "جلنّار"، وهذا الإسم "جلنّار" هو تعريب، مثلما تُشير المصادر، للكلمة الفارسية "كلنار"، وتعني بلغتنا العربية "ورد الرمان أو زهرة الرمان"، تبدأ الزهرة تتفتح مع إطلالة فصل الصيف، فتتزين بها حدائق منازلنا وتبتهج بها أراضي بساتيننا، ولهذا نجد الكثير من الاباء يتباهون بإطلاق إسم "جلنّار" على بناتهم نظرا لما يتصف من جمال اللفظ وسلاسة النطق، ليعبّر عن جمال المحيّا لفلذات أكبادهم.

تاريخيا، تذكر المصادر إن الرمان كان يمثل الحياة والتكاثر والزواج في الحضارة اليونانية القديمة, وقد دخلت حكاياته وفوائده الخارقة في الكثير من الأساطير اليونانية، فقد أطلق عليه اليونانيون القدماء "فاكهة الميت"، نظرا لأن المُحتضر عادة ما يطلب ثمرة الرمان باعتبارها رمز للحياة. وفي مصر، فقد وجد المصريون شجرة الرمان "مرسومة على جدران مقابر تل العمارنة في عهد إخناتون"، ويرى أن "أحد ملوك الفراعنة ويدعى (تحوتمس) أحضر معه الرمان إلى مصر من آسيا، كما غُرست أشجار الرمان في حدائق بابل المُعلّقة"، وقد نُقشت رسومات للرمان في جدران وتماثيل المعابد القديمة، وتعتقد بعض الدراسات أن زراعة الرمان أنتقل غرسها  إلى شمال أفريقيا وبلاد الشام وبقية بلدان حوض البحر المتوسط، ويُقال أن العرب نقلوا فسائل الرمان فيما بعد إلى بلاد الأندلس.     

أمّا العرب المسلمون فقد عرفوا ثمار الرمان باعتبارها أحد "فواكه أهل الجنة"، فقد تم ذكرها أكثر من مره في القران الكريم، من بينها الاية رقم ( 68) بسورة الرحمن: "فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ"،  وفي الرمان، يُروى أن الرسول (ص) قال: "ما من رمانة إلا وفيها حّبة من رمان الجنة، فإذا تبدّد منها شئ فخذوه، ما وقعت وما دخلت تلك الحّبة معدة امرئ مسلم إلا أنارتها أربعين صباحا". وفي الأثر العربي، يُذكر أن سيدنا علي رضي الله عنه قال: "كلوا الرمان بشحمه، فإنه دباغ المعدة"، كما تمّت الإشارة إليها في بقية الكتب المقدسة، ففى التوراة يُرمز الرمان إلى "الحرمة والقداسة والخصوبة"، ولذلك فاليهود كانوا يزيّنون "أعمدة هيكل سُليمان وملابس ملوكهم وأحبارهم بالرمان"، وعند المسيحيين، يُعتبر الرمان "رمزاً للبعث والحياة الأبدية"، فهو، أي الرمان، يوجد في نقوشهم المسيحية وتماثيلهم المقدسة كما تم تضمينه في صور "العذراء والطفل"، إضافة إلى إن شجرة الرمان هي التي "كُبّل فيها حيوان وحيد القرن في أسطورة تجسيد المسيح"، كما تحتل شجرة الرمان القداسة عند البوذيين، ففي أسطورة شخصية (هاريتي) اليابانية التي كانت "مُتوحشة وتأكل الأطفال، فقد شُفيت من الشرّ بعدما أعطاها بوذا رمانة لتأكلها"، وقد تم ذكر الرمان في طقوس الديانة "الزرادشتية" التي نشأت وانتشرت عقيدتها في بلاد فارس.

ولشجرة الرمان وثمارها حضورهما المُلفت في أروقة التراث الأدبي العربي، فقد تم ذكرها في الأشعار، وتغّنت بها الشعوب وكان وما يزال لها حضور في أمثالنا الشعبية، والمثل العربي الشائع: "مش ع رمانة، بس القلوب مليانة"، ما يزال يتداول في حالات التقليل بالأسباب الظاهره عند حدوث مُشكلة كبيره، ولم تغب الرمانة عن مساقات أدباء العرب حتى وهم في مهجرهم، فها هو شاعر المهجر والفنان جبران خليل جبران، يتخذ من الرمانة نموذجاً لأحد مساقاته الأدبية، حيث يقول في أحد أعماله المُعربّة: "عشتُ مرة في قلب رمانة، و بينما أنا جالس يوماً في خليتي سمعتُ حبة تقول: سأصير في المستقبل شجرة متعالية تترنم الأرياح بأغصانها و ترقص الشمس على أوراقها و سأكون قوية جميلة على ممّر الفصول. فأجابت حبة ثانية و قالت: ما أجهلك أيتها الرفيقة! فإني كنتُ صغيرة مثلك حلمتُ أحلامك ولكنني بعد أن صرتُ قادرة على تحديد كل شيئ بمقياس ومعيار أدركتُ أن جميع آمالي كانت باطلة. ثم قالت حبة ثالثة: أما أنا فإنّني لا أرى فينا ما ينبئ بمثل هذا المستقبل العظيم .فأجابت حبة رابعة وقالت: إذا لم ترمِ حياتنا الى مستقبل أنبل و أبهى فباطلة هي. فوقفت إذ ذاك حبة خامسة وقالت: ما بالنا نتجادل فيما سيؤول إليه أمرنا في المستقبل في حين أننا لا نعرف ما نحنُ عليه اليوم. فقالت حبة سادسة: إنّنا سنظل على ما نحن عليه الآن. فأجابتها حبة سابعة قائلة: إن في ذهني صورة واضحة للمستقبل و لكنني لا أستطيع أن أرسمها بالالفاظ .ثم تكلمت حبة ثامنة و تاسعة و عاشرة و حبوب كثيرة حتى تكلّم الجميع، فلم أفهم شيئا لوفرة الأصوات وبلبلتها، فتركتُ الرمانة في ذلك اليوم، وأتيت فسكنتُ في سفرجلة "فاكهة تشبه التفاح" حيث لا يوجد إلا قليل من الحبوب تعيش بصمت و سكون".

وفي روايته الشهيرة "وحدها شجرة الرمان"، تتحوّل شجرة الرمان عند الشاعر والروائي العراقي سنان أنطون بصورها "الفنتازية" إلى رمز للموت والحياة، لأن حبيبات ثمارها لذيذة ألا أن بطل الرواية يرفض تناوله "لامتلائه بالموت"،  فشجرة الرمان في هذه الرواية كانت ترتوي من مياه حوض لغسل الموتى، وهي رواية تصف مأساة العراق والموت الذي يلتهم قلب بغداد "المُحتلة"، فالحياة عند بطل الرواية "رائعة" لكنه الان لا يتمتّع بها، "فكل روعة صارت كثمرة الرمان مليئة بالموت والحزن"، وهو بهذا حال لسانه يقول: أن على الانسان أن يتحوّل إلى شجرة رمان كي يستطيع الاستمرار في الحياة، وأن عليه القيام بقرار "فلسفي" لتحويل ماسيها وأحزانها والامها إلى بهجه. يذكر في نص الرواية عن شجرة الرمان هذه التي تروى بمياه غسيل الموتى: "نظرت إلى تُربتها الغامقة المبلّلة بماء الغسل الذي كانت قد شربته للتو، عجيبة هذه الشجرة، تشرب ماء الموت منذ عقود لكنّها تظل تورق كل ربيع وتزهر وتثمر، ألهذا كان أبي يحبها كثيراً؟ كان يقول بأن في كل رمانة حبة من حبات الجنة، لكن الجنة بل الجنات كلها دائما هناك في مكان اخر، والجحيم كله هنا، ويكبر يوماً بعد يوم، جذور شجرة الرمان هذه مثلي هنا في أعماق الجحيم"، ويستطرد مُتسائلاً "يا ترى هل تبوح الجذور بكل شيء للاغصان ام انها تخبيء عنها ما يوجع، ترتفع اغصانها وتبدو حين تداعبها الريح كأنها تحاول ان ترفرف لتطير لكنها شجرة قدرها أن تكون شجرة وأن تكون هنا؟“. 

وعندما نسترسل في البحث عن جلنار والرمانه من بين أرفف الادب العربي، نعثر على قصيدة للشاعرة المغربية فوزية أمين التي تستشعر في ديوانها "وعود الجلنار":

عصفورة غجرية يغشاها الحنين

تعيش في بستان الحواس

وبخيط من ندى

تروض الجلنار على رقصة زهرية

واسترسالاً لأهميتها الثقافية في الوسط العربي، فأننا ما نزال نردّد بين الفينة والفينة طرباً أغنية "هيلا يارمانه، الحلوه زعلانه، مين يراضيها..."، أحد أعذب الأغاني التي ذاع صيتها في مختلف المدن العربية خلال الفترة الذهبية للأغنية الكويتية، كما لا نزال نستحضر الفنانة اللبنانية القديرة فيروز وهي تشدو طرباً بصوتها الملائكي بأغنية "البنت الشلبّيه" التي تقول في أحد مقاطعها:

"بتطل بتلوح، و القلب مجروح

و أيام عالبال .. بتعن و تروح

تحت الرمانة .. حبي حاكاني

و سمعني غناني يا عيوني، وتغزّل فيّا"

صحيّاً، فقد وُصف الرمان في الطب القديم في أكثر من موضع، فقد استخدمه المصريين القدماء في الطب، بعدما عرفوا "فاعليته في مكافحة الديدان المعوية منذ أكثر من 4 آلاف سنة، واستعملت قشور جذوره في مكافحة الدودة الشريطية"، وفي الطب النبوي ما أشار إليه الفقيه والعالم إبن القيم الذي دوّن بأن "الرمان مقو للمعدة، نافع للحلق والصدر والرئة، ماؤه ملّين للبطن، وله خاصيّة عجيبة: إذا أكل بالخبز يمنعه من الفساد في المعدة ...". وتذكر مصادر الطب القديم أن قشرة الرمان تحتوى على مواد طبية "قابضة للإسهال وموقفّة للنزيف، وعصير الرمان مُضادّ للتقيؤّ ويحدّ من الام السعال، والمادة الغذائية للرمان تساهم في تأمين توازن ضغط الدم وخفض منسوب الدهون، والتقليل من الكلوسترول وأمرض القلب وتصلّب الشرايين، ويمنع هشاشة العظام وهو أيضا فاتحاً للشهية". وفي كتب الطب القديم يؤكد العالم النباتي الصيدلاني إبن البيطار الذي كتب واصفاً فوائد زهر الرمان "جلنار" في علاج بعض الأمراض: “أزهار الرمان تشد اللثة، وتضمد الجراح، والتمضمض بطبيخ الازهار يقطع نزيف اللثة الدامية".  الدراسات الطبيه الحديثة تؤكد على الفوائد الصحية الجمّة للرمان، فالدراسات البحثية تشير إلى أن الرمان تختلف ميزاته وخصائصه باختلاف أنواعه، فالنوع الحلو منه يحتوي على "حمض الليمون بنسبة 1%، والسكر بنسبة 7%، والبروتينات بنسبة 1%، وألياف بنسبة 2% ورماد بنسبة 4.7%، ودسم بنسبة 3% وماء بنسبة 81.3% وفيه مقادير ضئيلة من الأملاح المعدنية وخاصة الحديد، وفيتامين (ج)"، والدراسات التخصصية تفيد بأن الرمان يسخدم في صناعة المكونات الغذائية، ومُستحضرات التجميل ودباغة الجلود وصناعة السجاد.

على المستوى الوطني، تتوافر أشجار الرمان بكثرة في مختلف أرجاء السلطنة، ألا أن زراعتها ترتكز في قرى نيابة الجبل الأخضر بمحافظة الداخلية، وتشير الاحصائيات إلى أن هناك ما يزيد على 27000 شجرة رمان، يصل إجمالي إنتاجها ما يقرب من 645 طناً من ثمار الرمان بالجبل سنوياً، تتنوع جودتها بين الحامض والحلو والملاسي والقصم، وتتباين أحجامها بين المتوسط والكبير، وتبلغ القيمة التسويقية لمحصول الرمان ما يقرب من 2,5 مليون ريال سنوياً، وهو ما يمثّل أحد المصادر الرئيسية لدخل المواطن بهذه المنطقة الاستثنائية. 

في دراسته العلمية، يذكر الدكتور "لينوس أوبارا (Dr. Linus Opara ) أنه بالرغم من انتشار زراعة الرمان في العديد من أقطار العالم إلا أن الادب العالمي قد أقرّ بالجودة العالية لنوعية الرمان العماني، ومن أهم الادباء الذين أشاروا لذلك المُستكشف تشارلز بيكرينج (Charles Pickering) الذي قام برحلة جاب فيها العالم درس خلالها الجنس البشري وثقافاته وأنظمة الانتاج الزراعي والحيواني، ذكر في أحد مؤلفاته " أن الرمان المنتج في مسقط يعتبر من النوعية ذات الجودة العالية جدا" وذكر في الثقافات القديمة أن الرمان العُماني كان يصدّر إلى بلاد الهند وهذا دليل قاطع على ازدهار البستنة وإنتاج الرمان منذ القدم في عمان، وتنوّه نتائج الدراسة إلى أن "رمان الجبل الأخضر يحوي كميات من المركبّات الصحيّة تُضاهي تلك الموجودة في فاكهة الرمان المستوردة"، وأظهر البحث أن الرمان المنتج بالجبل الاخضر "ذو جودة عالية وذو فائدة طيبة وصحية هامّه".

وفي السلطنة، يبدو أيضاً أن شجرة الرمان تثبت أهمية حضورها في أحد أهم الرموز الدينية والثقافية بالسلطنة، حيث تشير الدراسة الانفة الذكر أن السجادة العملاقة التي تكسو أرضية جامع السلطان قابوس الأكبر التي تُغطي مساحة 4263 متراً مربعاً تتألف من 1700 مليون عقدة وتزن 21 طناً قد "نُقشت في أجزاء كثيرة منها بصبغات مصنوعة أو مُشتقة من فاكهة الرمّان"، وهذا يُعطي دلالة أخرى كبيرة لأهمية هذه الشجرة وثمارها والتصاقها بثقافة عقيدتنا الإسلامية.

الحقيقة "المُرّه" التي تُزعجنا عند الحديث عن ثمار أشجار الرمان بالجبل الأخضر هي إصابتها بافة «فراشة الرمان»، وهي افة زراعية  تُعرّضّها لهجوم مُباغت من "الحشرات المترممّة والفطريات والبكتيريا"، ومنذ بروز هذه الآفة في تسعينيات القرن المنصرم، والجهات المختصة ممثلة بوزارة الزراعة والثروة السمكية تتبنّي برنامجاً خاصاً لمكافحتها "ميكانيكيا وكيميائيا"  بواسطة استخدام المبيدات الآمنة صحيا، إضافة إلى انتهاج طرق "المكافحة الحيوية" التي ترتكز على  برنامج متخصص في  "تربية وإكثار وإطلاق طفيليات الترايكوجراما" التي تقضى على الآفة في طور البيض قبل الفقس إلى اليرقات وإحداث الضرر للثمار، وبالرغم من أن جميع هذه الجهود التي تبذلها الوزارة بالتعاون مع الجمعية العمانية لمزارعي أشجار الرمان التي تأسست لاحقاً في عام 2014م تلاقي تقديراً منقطع النظير من قبل المستفيدين منها بنيابة جبل الأخضر، ألا أنها لم تتمكن بعد من القضاء نهائياً على هذه الافة المُزعجة. 

لا يسعنا هنا إلا أن نوجّه تحية شكر وعرفان بالجميل لجميع الجهود التي تبذل لتذليل كافة المعوقات التي تعترض مزارعي أشجار الرمان، بواسطة تبنّي التكنولوجيا الحديثة وتعزيز الوعي بإتباع العلميات الزراعية المثلى، والتشجيع على استخدام المًبيدات الصديقة للبيئة، وتطبيق أساليب الريّ الحديثة، وهي جهود لا بدّ من أن تأتي بثمارها في قادم الوقت بمشيئة الله.    

يبقى القول، مع إطلالة كل صيف، تبدأ "جلنّار" بالتفتّح، فتستعيد رونق دورة حياتها بعد سباتها لأشهر، غابات أشجار الرمان تتدّلى منها ثمارها الحمراء اليانعة، وهي بهذا كمن يدعونا للتطلع إلى التأملّ في الطبيعة، والاهتمام بمنتجها، ومن يحالفه الحظ بزيارة الجبل الاخضر خلال هذه الأيام سيحظى بالتمتع بمناظر بانورامية لغابات هذه الشجره المُزدهرة منها والمثمرة، وسيستمتع، كما استمتعنا في سابق الوقت، بضيافة أبناء الجبل ممن يتصفون بالودّ وبكرم الضيافة، ليتقاسم معهم بعضاً من مذاق لالئ ثمار هذه الفاكهة التي تقدّسها مختلف الأديان، وينصح بفوائد ثمارها الصحية الأطباء، ويتنشّد بها الأدباء والشُعراء، ويتغنّى بها نجوم الفن والطرب، أما أنا فسأواصل، هذا العام، استئناسي برقصة"جلنّار" في إحدى زوايا بيتي، مُتلهفّاً مشاهدتها ومراقباً لزهورها وهي تتفتح مع شروق فجر كل صباح، علّني أجني أول ثمرة رمان غرستها يداي، قد تعود بذاكرتي عشرات السنوات لم أُجاهر خلالها نفسي قبل غيري بالكثير والكثير من الأحاسيس الناعمة، اليوم، ها أنا ذا أبوحُ بما شعرت وما زلت أشعر به من "محاكاة فيروزية" تجاه مع من كان يتقاسم معي بودّ حبيبات الرمان تحت أغصانها الوارفة الظلال مُتمتماً ما تردّد على لسان الشاعر جمال مُرسي وهو يتغزّلُ في عشيقته "جلنّار":

يا " جُلَّنارُ " و قد ردَّدتُ أغنيةً، للبحر هل ضنَّت الأمواجُ و النَّغَمُ

أرى اليراعةَ جفَّ الحِبرُ في فمِها، و في يمينكِ غنَّى الحبرُ و القلمُ

أنت القصيدةُ و الأشعارُ لو نَطَقَت، قالت : لسيدةِ الأشعارِ نحتكمُ

فلتسكبي النورَ في الأجواءِ يا ألقاً، قد زانَهُ النبلُ و الإيثارُ و الكرمُ


خور الملح موطن الذهب الأبيض

  تدوين: يحيى السلماني مع بداية فصل الصيف التي تمتد من مايو حتى شهر أكتوبر تنشط وتيرة انتاج الملح بالطريقة التقليدية في ولاية قريات. وبنهاية...