الأحد، 29 مارس 2020

تسعيرة "البصل" وأشياء أخرى ...!

تدوين: يحيى السلماني
لأسبابٍ متعددة، من بينها الذُعر الإقتصادي الذي تسبب به فيروس "كورونا" (كوفيد-19 )، إنهارت أسعار النفط، وأرتفعت أسعار المواد الغذائية، وقد كان للبصل نصيبه من إرتدادات هذا الفيروس، فقد حازت تغريدة تذمّر أحد المواطنين من إرتفاع تسعيرة "جونيّة البصل" المُبالغ بها في سوق الموالح المركزي على انتشارٍ واسعٍ في محركات التواصل الإجتماعي، وباتت أخبار هذه التغريدة حديث الساعة، ثم دخلت بمتابعيها في سياقات أخرى من السخرية على "كورونا" والتهكّم على جهات الاختصاص، وهو ما اضطر المسؤولين في الهيئة العامة لحماية المستهلك إلى تخصيص زيارة ميدانية للسوق المركزي لتحرّي مصداقية التلاعب في أسعار الخضروات والفواكه، رافقها تغطية تلفزيونية كان المراد منها امتصاص "سخط" الشارع العام.   
وفضلاً عن أن البصل يدخل في أهم وجباتنا الرئيسية، فهو  حسب النتائج الصحية يتمتع بمكانته الإستثنائية في الطبين الشعبي (القديم) والحديث، فالبصل يُسهم في" تقوية الجهاز المناعي للجسم وله القدرة الفائقة على قتل الفيروسات والبكتيريا باعتباره يحتوي على نسبة هائلة من مضادات الأكسدة"، كما يتساوى البصل مع الثوم باعتبارهما "علاج سريع وقوي لنزلات البرد والأنفلونزا، وهما بهذا يحاربان مختلف أنواع العدوى والفيروسات".
في الجانب الأخر، هناك ما يعزّز أهمية البصل في مجتمعاتنا، ألا وهو "المعتقد الاجتماعي" المتوارث والذي يلعب، في رأينا، دوراً هاما في حيازة خبر ارتفاع أسعار البصل في سوق الموالح المركزي على مساحة واسعة بين مختلف التغطيات الإعلامية. فلا يزال المثل العماني: "كل من البصل ما حصل، و من الثوم ما تروم"  يُتداول بكثرة بين الأوساط الإجتماعية، وإن كان المثل الشعبي عادة ما يكون وسيلة للنصح والإرشاد، فهو لدى الشريحة العريضة للمجتمع يمثل صواب الرأي وصحة محتواه.
وقد عهدت شخصيا أثناء جلوسي مع والديّ، رحمهما الله، أنهما، في غالب الأحيان، لا يمكن أن يتحدثا دون الإقتباس من قائمة الأمثال الشعبية بما يتوافق وينسجم مع نوع الموضوع اللذان يتحدثان عنه، فتأخذ الأمثال خلال حديثهما حيزاً كبيراً، وقاعدة أساسية للإقناع والتوجيه، ولم يكن المثل العماني الدارج الانف الذكر "كل من البصل ما حصل"  غائباً عن حديثهما حينما يتوجب النصح بذلك. 
 والعمانيون ليسوا الوحيدون ممن يكنّون للبصل أهمية خاصة في تراثهم الشعبي (الصحي والثقافي)، فهو – أي البصل – يبدو أن تاريخه طويل جدا، ضاربا في أقدم الحضارات الإنسانية، ففراعنة مصر  قدّسوه، "وكانوا يحلفون ويقسمون به، ويخلّدون إسمه في نصوص جدران المعابد وأوراق البردى، وكانوا يضعونه في توابيت الجثث المحنطة، لاعتقادهم أن البصل يساعد الميّت على التنفس عندما تعود إليه الحياة، ومن اللافت للنظر في تاريخ الحضارة المصرية القديمة، أنهم كانوا يحرّمون تناوله في الأعياد لئلا تسيل دموعهم، إعتقادا منهم أن الأعياد للفرح ليست للبكاء، وكان الأطباء ممن عايشوا حضارة الفراعنة يضعون البصل في أولويات القوائم العذائية التي كانت توزع على العمال الذين ساهموا في بناء الأهرامات ليمنحهم القوة والبأس".
وللبصل مكانة خاصة عند العرب، ويذكر داود الأنطاكي، أحد علماء الطب والصيدلة البارزين في القرن السادس عشر، في كتابه "التذكرة": أن البصل "يفتح السداد، ويقوي الشهية، ويذهب اليرقان والطحال، ويدر البول والحيض، ويفتفت الحصى..."،  وأكد ابن سينا، أمير الاطباء، في كتابه "القانون": "أن بذر البصل يذهب البهق، وهو بالملح يقلع التآليل، وماؤه ينفع الجروح الوسخة وإذا سُعط بمائة نقى الرأس، ويقطر في الإذن لثقل الرأس والطنين والقيح في الأذنين"، وتبيّن تحاليل الطب الحديث أن "للبصل مفعولاً واضحاً في قتل جراثيم التيفوس".
بعد أن أدركنا الأهمية الكبيرة التي يحظى بها البصل قديما وحديثا، نرى أن إكتناز محتوى موروثنا الشعبي العربي بالبصل يعود إلى تناقل أهميته الغذائية في الحضارات التي تعاقبت علينا، ومن يسبر أغوار أمثالنا الشعبية يجد بأن أهمية البصل لا تقتصر على فوائد مادته الغذائية والصحية الفعالة، بل يجد أيضا أن لسمات رائحته كانت وما تزال عند العرب وجبة دسمة للسخرية والتهكّم، لها دلالاتها ومعانيها المتباينة تتفاوت بين أفراد المجتمع حسب خلفيات خصوصياتها الثقافية.       
يقول الأصمعي وقد سأله الرشيد عن حقيقة العشق: "إنه شيء يذهل القلب عن مساوئ المحبوب، فيجد رائحة البصل من المحبوب أعظم من المسك والعنبر"، ويقول الأديب أنيس منصور ساخرا: "الحياه مثل البصل، قشره تحت قشره، ولا شيء في النهاية إلا الدموع".  وفي البصل يتمثل أبناء الشام: "أبوك بصل وأمك التوم، منين لك الريحه الطيبة يامشئوم"، وفي هذا المثل دلالة على أن الإنسان سيء القول والفعل لا يمكن أن تنتظر منه الشيء الحسن، كما أن المثل المصري: "افتكر لك إيه يا بصلة، وكل عضة بدمعة"، ويضرب المثل العربي الشائع: "بصلته محروقة" في من لا يتحلى بشيمة الصبر، ويتصف بالتسّرع.
نحن هنا نفضّل أن ننأى بأنفسنا عن ما ورد في مداخلات منصّات التواصل الإجتماعي، إستجابة للمثل القائل: "لا تدخل بين البصلة وقشرتها"، فارتفاع أسعار "جونية البصل" وهبوطها لها من يتابعها ويراقب مؤشراتها، وأصحاب الشأن، في مكاتبهم ومنازلهم، لهم أحقيّة الحديث عن الية إدارتها، ألا أننا نود أن ندوّن فقط أن لا تتغافل الجهات المعنية الإستفادة من معطيات الطبيعة التي وهبنا الله إياها،  إذا ما علمنا بأن مساحة الأراضي الصالحة للزراعة بالسلطنة، حسب إحصائيات وزارة الزراعة والثروة السمكية، "تبلغ نحو (2.2) مليون هكتار، وتشكل نحو 7% من المساحة الكلية للسلطنة"، كما توجد أكثر من  3433840 من الحيوانات (جمال، أبقار، ضأن، ماعز)، في الجانب الاخر، تزخر بحارنا بتنوع ثرواتها البحرية، فقد تم تسجيل "أكثر من 1022 نوعاً من الأسماك العظمية والغضروفية، وحوالي  252 نوعاً من المحاريات، و60 نوعاً من السرطانات البحرية" والبحوث ما تزال مستمرة لتسجيل أنواعاً جديدة من الكائنات البحرية في المرحلة المقبلة. هذه المؤشرات الأوليّة التي تؤكدها الجهات المختصة تبدو لنا مبشرة بالخير، إذا ما أمعنّا الجديّة في دعمها باسترتيجية مدروسة تفي بالعمل على تأسيس "إستثمار غذائي" ناجح.
حقيقة ما يثير الغرابة هو: ما الذي جرّنا، ويجّرنا على مدى عقود، لاعتماد أسواقنا على إستيراد مختلف الأنواع من الخضروات والفواكه والأسماك واللحوم والألبان المُبسترة بمشتقاتها؟ وفي ظل توفر مساحات جيدة صالحة للإنتاج الزراعي والحيواني والسمكي، نتسائل: لماذا حجم إنتاجنا المحلي لا يكفي لتغطية الطلب المتزايد في الأسواق المحلية؟
قبيل عامين تقريبا، أُنيط بشق الأمن الغذائي إلى وزارة الزراعة والثروة السمكية لإنشاء "مؤسسة قابضة للاستثمار الغذائي"، تُعنى بتجهيز ومعالجة الخضراوات، وتعليب المأكولات البحرية، وإنشاء مزرعة ألبان متكاملة، ومشروعان لإنتاج اللحوم البيضاء والدواجن، وتطوير منتجات التمور... وغيرها من المشاريع التي تعد بالنسبة لنا كمواطنين "تطلعات" نتمنى أن تتحقق على أرض الواقع في القريب العاجل.
 وحتى لا تضيع "تطلعاتنا" تلك في مهبّ الريح كما ضاع قبلها ما ضاع من "التطلعات"، نرتئي أن كل ذلك لا يمكن إنجازه إلا بوجود رغبة صادقة، "فليس شيئ أنفع للعبد من صدق العزيمة والصدق في العمل"، كما نرى أهمية إنشاء قاعدة بيانات تتضمن معلومات وأرقام حديثة، وتوفير المناخ المناسب لإقامة مختلف المشاريع الإنتاجية، بواسطة إصدار تراخيص استثمارية ميّسره، وأن نحرص على معالجة التحديات، وتقييم الإنجازات المتواضعة التي تحققت سابقاً وتطويرها من خلال الإطلاع على تجارب ناجعة لعدد من الدول الشقيقة والصديقة التي لا نظن أنها ستتردد في دعمنا ب"بيوت خبراتها" في هذا المسار.  
فصل القول: ماذا لو أطال الله أمد محنة فيروس كورونا؟ هل سنعود لأكل "التوت والمتوت" كما يشاع بالدارجة؟ حتى يكتب لنا النجاح لاجتياز ما نعاني منه اليوم من إرتفاع أو التلاعب في تسعيرة المواد الغذائية، وتجنّب نقص مثل هذه المواد مستقبلا، فقد حان الوقت للاعتماد على إمكانياتنا، لأن نعم الطبيعة العمانية بموارد برها وبحرها ما  تزال بكراً، ولدينا من الكوادر  الوطنية ما يكفي لإدارة مثل هذه المشاريع الوطنية، ويكفينا من أن نستورد الموز من الفلبين، وحبة الليمون والخيار والجزر والطماطم من فيتنام وتايلند، ونستجلب المانجه من شبه القارة الهندية وجنوب أفريقيا، وثمار البصل والرمان من اليمن وإيران، والبرتقال والعنب والفراوله من بلاد الشام وشمال أفريقيا، ونأتي بالدجاجة من البرازيل، ونشحن الماعز من الصومال، وننتظر الخروف من أستراليا، والتونه المعلبّة من أمريكا، والقائمة تطول ...!
هذا ناهيك عن أن من يقف على تسويق جميع هذه المنتجات بهذا السوق المركزي الذي أنشئ لرفد الإنتاج الوطني هم عمالة وافدة، لم نجد لذلك ما يبرره، في ظل تفاقم أزمة البطالة وتسريح المواطن العماني من رأس عمله، وأخيرا وليس اخرا، لنا في مقولة الأديب العربي الراحل، فيلسوف الكلمة والريشة، جبران خليل جبران دروس وعبره: "لا خير في أمة تأكل مما لا تزرع، وتلبس مما لا تخيط، وتشرب مما لا تعصر"، ولأصحاب القرار بحكومتنا الرشيدة واسع النظر...!

السبت، 28 مارس 2020

لعلّي إلى من قد هويتُ أطيرُ ...!

الوروار أحد الطيور المقيمه بالسلطنة (عدستي)


 تدوين: يحيى السلماني
مشاهدة الطيور هي إحدى الهوايات التي شُغفتُ بممارستها منذ ما يقرب من عشرين عاما. هواية فتَحت ليّ الباب على مصراعيه لسبر أغوار عالم حياة الطيور المليء بالأسرار، وتأمّلي لهذه المخلوقات الرائعة، جرّني إلى البحث عن قيمتها الأدبية في مساقات الأدب العربي. ومن يتنزه بين هذه المساقات، يجد أن أُدبائنا قد حقّقوا السبق لتوفير مكانة أدبية خاصة للطيور قبيل أن يمارس عالمنا "المتحضّر" هواية مشاهدتها التي بدأت في بريطانيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ثم لحقت بها بقية دول العالم.   
ببساطة متناهية، لا يمكنني وصف شعوري عند مراقبتي لحركات الطيور، والإصغاء إلى أصواتها، وتفحّص أجناسها، والتدقيق في تفاصيل ألوانها الزاهية، لا سيّما عند مشاهدتي لبعض منها للمرة الأولى. سنين طويلة قضيتُها حاملاً الة التصوير  وأدوات عدسات التقريب التي تُعينني على مشاهدة الطيور بأريحيّة، وما أزال "أتأبّط" بعض الكتب التي تمدّني بمعلومات دقيقة عن أنواع الطيور الشائعة في عُمان. طالما جرّتني هذه "الرياضة العلمية" إلى تدوين أسماء الطيور التي شاهدتها، ومع مرور الأيام، تزداد مُتعة ممارستي لهذه الرياضة تألقاً، وتزدان بالتالي قائمة مدوّنتي الورقية بعشرات الأسماء من الطيور  شائعة كانت أم نادرة، مهاجرة أم مُقيمة. ومع ممارسة البحث عن مواصفات وبيئات كل طائر، تنامت خبرتي وتحسّنت معرفتي. كل هذا، يُسّهلُ عليّ الان التعرف على أنواع الطيور وألوانها ومواسم تزاوجها فور مشاهدتها دون الرجوع في كثير من الأحيان إلى الدليل الذي بتُ أتعمّدُ حمله في كل جوله أقوم بها.   
اليوم، أضحت عدستي المتواضعة تُدرك، أكثر من أي وقت مضى، أنه مع اقتراب فصل الشتاء، تبدأ "تباشير"  الطيور  بالتحليق على قمم الجبال، وتصدحُ بنغماتٍ لحنيةٍ رائعة بالقرب من العيون المائية وعلى ضفاف الأودية الجارية، وتتنّزه فرحة بين أغصان الأشجار الوارفة والزهور اليانعة. تُشكّل بعضها، كطيور البلابل والسنونو والنورس وزقزاق السرطان والفلامنجو أسراباً كبيرة تُرفرف في فضاءات بحريةٍ وبريةٍ منتظمة، ساعية بفطرتها التي وهبها الله إيّاها إلى تأمين ما يسدُ رمقها من مأكلٍ أو مشرب. ومن تُواتيه الفرصة لمراقبة ومشاهدة وتصوير الطيور سيتعلم الكثير عن غرائب هذه الكائنات، وسيكشف دورة حياتها، وكيفية حماية نفسها، والإستماتة في الدفاع عن صغارها عندما تتعرض للهجوم أو الصيد. باعثة رسالة فطرية مفادها: "ما استحق أن يولد من عاش لنفسه".
ولتضمن هذه الكائنات حياة أنعم، لا يتردّد بعضها، مثل الصقور السخامية، من الهجرة لمسافات طويلة جداً دون أن تفقد مسار هجرتها عند العودة إلى أرض الوطن، وهو ما يعدُ أحد الأسرار التي تتصف بها هذه الكائنات الوديعة. وفي شأن هجرتها، تشير البيانات العلمية "أن أنواعاً من الطيور المهاجرة «ترى» بصمات تغلغل المجال المغناطيسي للأرض على الوديان والأشجار والبراري، بعد أن تتعرف على أدق تغيرات هذا المجال بين تضاريس الأرض والطبيعة". كما وجد بعض الباحثين الألمان أن لدى الطيور  المهاجرة ليلاً  "خلايا شبكية العين ترصد المغناطيسية المتغلغلة بين الاشجار والصخور "، لتعينُ نفسها على تتبع المسار الذي تقصده. وتُشير الدراسات التخصصية إلى أنّ تواجد الطيور، يُعطي مؤشراً  جيداً على صحة وسلامة البيئة التي نعيش نحن من خيرات مواردها الطبيعية، كما أنها تلعب دوراً كبيراً في إيجاد "التوازن البيئي". فتسهم بطبيعتها في الحد من الآثار الصحية التي قد تتسبب في الضرر بالانسان والبيئة المحيطة به. وهي تُضفي، في ذات الوقت، لمسة جمالية على البيئة التي تعيش وتتكاثر بها.
ممارستي لهوايتي المشاهدة والتصوير الفوتوغرافي ساقني إلى البحث عن قيمتها الأدبية التي "تختبئ"، إن صح التعبير، على أرفف مكتباتنا الأدبية. وممارستي لهذه "الرياضة العلمية"، قد أشعل في نفسي جذوة الحماس لأتحسّس "القيمة الأدبية" للطيور . فخلال عمليتيّ "المراقبة والتصوير"، وعندما تنوءُ ساقي في أحيان كثيرة من التعب، يثير شجو الطيور  ذاكرتي الأدبية. وهو ارتباط ملتصقٌ، ربما، ب"مزاجٍ مشرقيٍ" تجذّر  بي منذ نعومة أظافري. فطفولتي، كما أرادها والدي رحمة الله عليه، كانت زاخرةٌ بقراءة الشعر العربي الفصيح، وهو ما يعكس اليوم مدى إرتباط الشعر  وبقية الفنون الأدبية بصفحات حياتي اليومية.
غير مرة، وأنا أتأمّلُ طيور عُمان الزاهية لأجد نفسي قد طربتُ لنبرة ألحانها الهادئة، فأغادر صمتي ثم أستوقف "مضطراً" حركتيّ "الترقّب والتصوير" مردّداً أبياتاً شعرية حفظتها عن ظهر قلب منذ زمن...! إن أنسب ما استذكره هنا هو ما شدا به قيس إبن الملوح "مجنون ليلى" عندما زاد به الشوق "حداً لايطيقه"، فيقول في أبياتٍ قد خطّها والدي رحمة الله عليه بمداد قلمه على بطن الغلاف الداخلي لديوان "جواهر الأدب" الذي ما زلت محتفظاً بنسخته حتى اليوم:     
بكيتُ على سرب القطا إذ مررن بي، فقلتُ ومثلي بالبكاءِ جديرُ
أسرب القطا هل من يعيرُ جناحهُ ؟، لعلّي إلى من قد هويتُ أطيرُ
ومن يدري، لعلّ والدي رحمةُ الله عليه، الذي عاش طيلة حياته "مهووساً" بقراءة الشعر العربي الفصيح، قد عادت به الذاكرة ذات يومٍ ليجتاز حواجز الصمت، فاستذكَرَ  أطيافٍ من أيام صباه وشبابه الباكر، وهو ما حدا به تدوين هذه الأبيات التي تمتزج شوقاً وحنيناً، ملتمساً من طيور  القطا التي تتنزه في وسط مراعي المزارع المكتضة بأشجار النخيل التي تحيط بمنزله أن تَعرهُ جناحاً علّهُ يتمكّنُ من الطيران ليُناجي "سلوة خاطره...!".  
وفي ذات السياق، استعطفني، غير مرة، استجداء طائر  جريح بعدما عُصف"برصاصة" صيد جائر، لم أملك ساعتها إلا أن أُتمتمُ بما تغنى به أمير الشعراء، أحمد شوقي، الذي أنشد بعد أن سمع سجع قمرية فظنّها تشكو حزناً مثله:
بي مثلُ مابكِ ياقمرية الوادي، ناديتُ ليلي فقومي في الدُجى نادي
وَأَرسِلي الشَجوَ أَسجاعاً مُفَصَّلَةٌ، أَو رَدِّدي مِن وَراءِ الأَيكِ إِنشادي
 لا تَكتُمي الوَجدَ فَالجُرحانِ مِن شَجَنٍ ، وَلا الصَبابَةَ فَالدَمعانِ مِن وادِ
تَذَكَّري مَنظَرَ الوادي وَمَجلِسَنا، عَلى الغَديرِ كَعُصفورَينِ في الوادي
 وَالغُصنُ يَحنو عَلَينا رِقَّةً وَجَوىً، وَالماءُ في قَدَمَينا رائِحٌ غادِ
ومن يتبّحر  في البحث عن التفاف فنون الأدب العربي بالطيور، لا يفوته التطرق إلى ما تغنّى به أبو فراس الحمداني عندما سمع هديل حمامة وهو في أسره تنوحُ على غصن شجرة، فأنشد مهموماً:
أَقولُ وَقَد ناحَت بِقُربي حَمامَةٌ أَيا جارَتا هَل تَشعُرينَ بِحالي
مَعاذَ الهَوى ماذُقتِ طارِقَةَ النَوى وَلا خَطَرَت مِنكِ الهُمومُ بِبالِ
أَتَحمِلُ مَحزونَ الفُؤادِ قَوادِمٌ عَلى غُصُنٍ نائي المَسافَةِ عالِ
أَيا جارَتا ما أَنصَفَ الدَهرُ بَينَنا تَعالَي أُقاسِمكِ الهُمومَ تَعالَي
تَعالَي تَرَي روحاً لَدَيَّ ضَعيفَةً تَرَدَّدُ في جِسمٍ يُعَذِّبُ بالِ
أَيَضحَكُ مَأسورٌ وَتَبكي طَليقَةٌ وَيَسكُتُ مَحزونٌ وَيَندِبُ سالِ
لَقَد كُنتُ أَولى مِنكِ بِالدَمعِ مُقلَةً وَلَكِنَّ دَمعي في الحَوادِثِ غالِ
ففي وحدته، لم يجد أبو فراس أجدى من تسخير قريحته الشعرية ليفضفض عن همّه مع تلك الحمامة التي استأنس الحديث معها، بعد أن قرّر أنه "سيمضي لما لا يعيبه"، أي أنه فضّل الأسر على حياة الهوان والمذله، وقد نالت أبياته هذه شهرة واسعة في الوسطين الأدبي والفني (الغنائي).  
ولا تقتصر الإشارة إلى الطيور في أشعار الشوق أو الحنين والغزل، بل لامست الطيور أيضاً أناشيد الابتهال والمناجاة، وليس أصدق على ذلك من محتوى القصيدة الخالدة لسيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه التي يقول فيها:
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت، أن السعادة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنه، إلا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه، وإن بناها بشر خاب بانيها
والطير ُتجري على الأغصان عاكفة، تُسّبح الله جهراً في مغانيها   
كما ترافق الطيور شعرائنا في المهجر، فها هو "شاعر الطلاسم" إيليا أبو ماضي يدعو الإنسان في غربته بالتفائل، والاستمتاع بجماليات الحياة في الأرض والسماء "وما بينهما"، متّخذاً الطيور مثالاً حيّاً وقدوة صادقة للحياة الهانئة البعيدة عن التململ والتذمّر  حتى عندما تضيق بنا الحياة، نقتطف من قصيدته:
وإذا ما أظلّ رأسك همّ،  قصّر البحث فيه كي لا يطولا 
أدركت كنهها طيور الرّوابي،  فمن العار أن تظل جهولا 
ما تراها والحقل ملك سواها،  تخذت فيه مسرحا ومقيلا 
تتغنّى، والصّقر قد ملك الجوّ  عليها ، والصائدون السّبيلا 
تتغنّى، وقد رأت بعضها يؤخذ  حيّا، والبعض يقضي قتيلا 
تتغنّى ، وعمرها بعض عام،  أفتبكي وقد تعيش طويلا؟ 
فأطلب اللّهو مثلما تطلب الأطيار  عند الهجير ظلاّ ظليلا 
وتعلّم حبّ الطلّيعة منها،  واترك القال للورى والقيلا 
فالذي يتّقي العواذل يلقى،  كلّ حين في كلّ شخص عذولا 
أنت للأرض أولاً وأخيراً،  كنت ملكا أو كنت عبدا ذليلا 
لا خلود تحت السّماء لحيّ  فلماذا تراود المستحيلا ؟ 
كلّ نجم إلى الأقوال ولكنّ  آفة النّجم أن يخاف الأفولا
أيّها الشاكي وما بك داءٌ كُن جميلاً ترى الوجود جميلا   
وبعد رحلة "الترقب والتصوير"، وعند عودتي أدراجي للمنزل، أجد نفسي وحيدا غارقا في غيم ذكرياتي، ولطالما استرجعت ذاكرتي "نشيد البلبل" الذي كان يدرس في الصفوف الأولى للمرحلة الإبتدائية:  
قد كان عندي بلبل، حلو طويل الذنب

أسكنته في حجرة، في قفص من ذهب

ولم أكن أمنعه، من مأكل أو مشرب

ففر مني هاربا، من دون أدنى سبب

وقال لي: حريتي، لا تشترى بالذهب
هذا النشيد الجميل يصنف في باب "أدب الطفل"، وهو يحمل بين طياته معانٍ راقية عميقة، صيغت بكلمات سهلة، وبأوزان خفيفة، وحديث الشاعر هنا عن علاقته الحميمة بهذا الطائر الجميل واعتنائه به، يعطي رسالة واضحة تبين أن استقلالية الإنسان والطائر وحريتهما هي أثمن من كل عطايا الدنيا.
في طفولتي، خصوصا في أيام الصيف، وبعد أن تطوى صفحة من عامنا الدراسي، كنت أقضي معظم وقتي في المزرعة المجاورة، تارة أراقب سلوك الطيور، وتارة أطاردها، وفي حالات أخرى قد يجرني اللهو إلى منازعة الطيور في أعشاشها، إنه زمن البراءة والشقاوة، نتمتع وقتها بصفاء الذهن، فنألف الدروب والأزقة الضيقة التي تطوف بمنحنياتها بنا بين المزارع، نتشبث بتربتها، ونستمتع بمعطيات الطبيعة التي تحظى بها،  أستذكر هنا: "صوت الهزار على أغصان أيكتها، يغنيك عن صوت قيثار وأعواد"
  وكم لشقاوة أيام تلك المرحلة من شجون وتباريح! فاليوم عندما أقترب من باحات تلك المزارع التي تتظلل بأشجار النخيل والمانجه أشعر بغربة شديدة، فلا أرى نفسي إلا واجما حزينا، لا أملك إلا أن أردد أشعارَ الحنين والشوق لأهلها ممن توارت أجسادهم تحت الثرى، فأتمتم قول الشاعر:
ثم انقضت تلك السنون وأهلها، فكأنها وكأنهم أحلامُ
من هنا، نرى أن المتتبع للتراث الأدبي، يجدُ أنّ الطيور تُشكّلُ جزءاّ هاماً في دواوين العرب،  وفي ذات السياق، تكتنز الذاكرة العربية في الجانب الاخر بروائع نثرية تبُرهن صدق العلاقة الوثيقة للطيور وأهميتها بالأدب العربي، نستذكر هنا، على سبيل المثال لا الحصر، "الحمامة المطوقة" في كتاب كليلة ودمنة، و"طوق الحمامة" لأبن حزم الأندلسي، كما أن الجاحظ في كتابه «الحيوان» قد سجّل أن "أروع ثلاثة أشياء في الدنيا هي البومة والكركي ومالك الحزين الذي يرقب الماء خلال تراجع مد البحر، وهو يخشى أنه قد ينحسر عن وجه الأرض، ممّا جعل دموعهُ تقطر حزناً". وتؤكّدُ الدراسات الأدبية أن سبب اهتمام الجاحظ بالحيوانات "لأنه يرى فيها جوانب من شخصية الإنسان الذي يجمع باعتباره صورة مصغرة للكون بكل سماته وخصائصه".  أمّا قصص «ألف ليلة وليلة» فيتضمن محتواها "عروساً تسير متبخترة مرتدية ثوباً محلّى بالذهب تتألّقُ فيه جميع أشكال الطيور والحيوانات باستخدام الأحجار الكريمة في موضع عيون الحيوانات والطيور"، في دلالة على أن الطيور تمثل جزءاً هاماً من السرد القصصي.
كما لامست الطيور مضامين أخرى في النثر العربي، وأدلّ مثال على ذلك ما ورد في خطبة عبدالحميد الكاتب عندما رسل رسالة لأهله وهو منهزم مع مروان، يقول فيها: ".... إن الله تعالى جعل الدنيا محفوفة بالكره والسرور ، فمن ساعده الحظ فيها سكن إليها، ومن عضّته بنابها ذمّها ساخطاً عليها، وشكاها مستزيداً لها، وقد كانت أذاقتنا أفاويق استحليناها ثم جمحت بنا نافرة، ورمحتنا موليّة، فَمُلح عذبها، وخشن لينها ، فأبعدتنا عن الأوطان ، وفرقتنا عن الإخوان، فالدار نازحة ، والطير بارحة... ".
من هنا، تجدر الإشارة إلى أن الأمثال العربية تبقى في ذات السياق شاهداً حيّاً يُخلّد ارتباط الطير بالأدب والعكس صحيح. فمن المثل العربي القائل: "الطيورُ على أشكالها تقع"، نجدُ أن هناك من الأمثال ما تُلامس الوجهين السيئ والحسن. ففي السيئ يقالُ مثلاً: "أشأمُ من غراب البين"، أما في الحسن فيقال: " يُغرّد فلان كالبُلبُل". ويقال في الأثر: "ما طار طيرا وارتفع، إلا كما طار وقع"، وهي صفات تلعب فيها أسماء الطيور ومواصفاتها دوراً محورياً لتوضيح الحسن والقبح في حياة الإنسان.   
قطعُ القول، تبقى هذه الباقات الأدبية "ترميزٌ"  جادٌ للذاكرة الإنسانية، فالشواهد على هذا أكثر من أن تحصى، لذا، كل ذلك يتوجبُ أن يُدرس ويُدرّس. فالتراث العربي، بشعره ونثره، يبدو مُزدحماً بالطيور، وهي إشارةٌ صادقةٌ على مستوى العلاقة الحميمية التي يرتبط بها الأدب العربي بعالم هذه المخلوقات التي تحمل من الأسرار ما لم يُكتشف بعد!   
 نبقى فخورين عندما يتناهى إلى مسامعنا بأن هناك ما يقرب من 520 نوعاً من الطيور تتواجد في ربوع السلطنة بين مقيمة ومهاجرة، وهو رقمٌ يؤكّد أن بيئتات السلطنة تستحوذ على إيواء مجموعة كبيرة من أنواع الطيور في العالم. وتعترينا السعادة عندما تُبذل جهات الاختصاص جُلّ جهدها لإنشاء محميات طبيعية ليس لأنها تُسهم فقط في إيواء هذه العناصر الأحيائية الفريدة، بل قد تُلهم أمزجة أدبائنا وتشعل جذوة قريحة شعرائنا فتوفّر لهم "الأرضية" ليعبّروا عن ما تُكنّه خواطرهم وتُخفيه جوارحهم في قالب قصصي مُسرد أو شعري مُلحن. ألا أننا نمتعض ونحس بالألم عندما تُشكّلُ بعض الممارسات، كالصيد الجائر ، والإتجار غير الشرعي بها، و المراوغة، في أحيان أخرى،  لإقامة مشاريع تنموية بالقرب من موائلها الطبيعية دون الأخذ بالاعتبارات البيئية المعتمدة من قبل الجهات الرسمية، خطراً حقيقياً يواجه هذه العناصر الأحيائية الفريدة، وهو ما يتسّببُ حسب مُشاهداتنا ليس في "نرفزة" هواة مشاهدي ومراقبي الطيور فحسب، بل يمتد ذلك "الاستياء" ليصل إلى مبدعينا ومثقفينا من أصحاب الحس المُرهف، ولا نملك عندما تقع عيوننا على مثل هذه الممارسات إلا أن نتعهد باحترام كل التشريعات الهادفة إلى حماية طيورنا من العبث وصونها من الاستنزاف. 
ومع محدودّية هذه المساحة، نستميحكُم عُذراً لنهمس في اذانكم ما ورد على لسان شاعر المقاومة، محمود درويش الذي تخيّر  الحمام رمزاً لقصيدته:
يطيرُ الحمام، يحطُ الحمام
أعدّي لي الأرض كي أستريح
فإني أحبك حتى التعب
صباحك فاكهة للأغاني وهذا المساء ذهب...!
 
      
 

الخميس، 26 مارس 2020

كورونا: "البعوضة تدمي مقلة الأسد"...!

تدوين: يحيى السلماني
في شهر ديسمبر من عام 2019 م، بدا فيروس كورونا (كوفيد-19 ) هادئا، لم يتوقعه البعض بما فيهم المختصون في مجالات الصحة، أن يتطور  وينمو ليصبح أحد الجراثيم المستعصية التي ستضاف في سجل أكثر الأوبئة فتكا في التاريخ البشري، فقد تجاوز الفيروس حدود القوميات والأعراق والأديان وأصبح وباء عابرا للقارات.  
اليوم وبعد ما يقرب من أربعة أشهر من تفشى هذا الفيروس الفتاك في أكثر من 140 دولة، يعيش العالم، شرقه وغربه، شماله وجنوبه، حالة استنفار قصوى، وعدم استقرار نفسي وصحي وحالة يرثى لها من التعثر الاقتصادي، وحكومات العالم، التي تعيش حالة من الإرتباك، تبذل جهودا مضنية لمواجهتة، والتقليل من حدة تأثيراته على صحة الإنسان والبيئة المحيطة به.
لا نستطيع أن نقدر قيمة ومقدار ما أنفق، لكن ما يمكننا الإفصاح به هو أن حكومات الدول ومؤسساتها هرعت إلى رصد مئات المليارات من الدولارات لمواجهة شبح كورونا (لم تستفد من هذه المليارات في إجراء البحوث العلمية مسبقا)، وأغلقت غالبية الدول موانئها البرية والبحرية والجوية، لا سيما بعد أن تضاعف عدد الإصابات به خلال فترة وجيزة إلى 15 مره، وهو ما عبر عنه التقرير الذي نشرته المجلة الأمريكية (The Atlantic) من وتيرة الخوف ورفع سقف الهلع لدى مختلف الشعوب إلى أعلى مستوياته، حيث جاء في التقرير: "يرجح أن يصيب كورونا ما بين 40 - 70 % من سكان الكرة الأرضية...".
توالت الاعترافات على استحياء، وبدأت الدول إصدار كشوفات يومية بالإصابات والوفيات، ثم إستحوذ خبر الفيروس على مساحات التغطيات الإعلامية، ومن يتابع الصحف ونشرات القنوات الفضائية، يشاهد عن كثب غالبية المدن الاسيوية والأوروبية والأميريكية قد تحولت إلى ساحات فارغة، توقف نبض الحياه في ساحاتها، وباتت أزقتها خاوية، وأسواقها باهتة، وكأنها أحياء هجرها ساكينها، فتحولت إلى "مدن أشباح" حسب ما تصفه وسائل الإعلام الدولية.
أدرجت الصين والفلبين وأسبانيا وسويسرا وبريطانيا وإيران تحت وضعية "الحجر الصحى الكلى" وقد تم الاعتماد على إجراءات وقائية صنفت من الدرجة الأولى، فتم تخصيص "المشافي المتنقلة"، واستقدام أجهزة طبية متطورة، وأوصت حكوماتها الابتعاد عن الفضاءات المزدحمة وتجنب القبلات والعناق عند تحية الأشخاص.
 وعلى المستوى الإقليمي، أوقفت السلطات السعودية أكبر الشعائر الدينية وأعظمها مراسم العمرة والحج، وباتت المزارات الدينية خاوية في مختلف البلدان الإسلامية. ومدن السلطنة وولاياتها، كمثيلاته من مدن العالم، امتثلت إدارات مطاعمها ومقاهيها وحدائقها ومنتزهاتها وفنادقها ومطاراتها وشواطئها ووجهاتها السياحية وأخيرا مدارسها ومساجدها ومزاراتها الدينية لتوجيهات الحكومة العمانية بإغلاقها، وللحد من اثار الفيروس ومحاولة لاحتوائه، كثفت الحكومة برامجها التثقيفية الموجهة لمختلف فئات المجتمع بغية التعاون ودعم استراتيجيتها الوطنية للتقليل من انتشار هذا الفيروس قدر الإمكان.
وبينما ينتاب الشارع العام الهلع والخوف، والإنشغال بتأمين أساسيات الحياة اليومية كالمأكل والمشرب وبقية المستلزمات الإستهلاكية، تطفوا على البرامج التلفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي تغاريد مقتضبه ترتكز حول عدة أمور: أولها يعنى بمتابعة تضاعف حالات الإصابات المتزايد، ومقارنتها مع الحالات الماثلة للشفاء، أما ثانيها فيتمثل في تصفح مضامين ما أطلق عليه "نظرية المؤامرة السياسية/ الاقتصادية" التي تسوق لها وسائل الإعلام، ويؤججها تراشق التهم بين الإدارتين الصينية والأمريكية لتعمد الأخيرة (أميريكا) لاستخدام للجراثيم أو الفيروسات، ويتمحور الأمر الثالث في ما وسم ب"العقاب الرباني" الذي يميل إليه المتصوفون أو من في صفهم، والذين يرون أن انتشار هذا الفيروس ما هو إلا سخط من الله على بني البشر ممن انتهكوا الحرمات، فحللوا الحرام، وأسفكوا دماء الأبرياء، واستباحوا أعراض وأموال الناس، فحان وقت الحساب، مستشهدين بالاية الكريمة: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها، فحق عليها القول، فدمرناها تدميرا". كما يستشهدون، في تغاريد مماثلة، بالاية 112 في سورة النحل "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ".  
بالرجوع إلى الأمر الأول: فقد تضاعفت أعداد الإصابات بطريقة أذهلت العالم، وأرجع أسباب ذلك على تغاضي العديد من الدول نشر الاعداد الحقيقية، أو قللت من أعداد الإصابات خوفا على مردودها الإقتصادي المرتبط بالسياحة، ألا أن هذه المنافع المؤقتة زادت من التكلفة وضاعفت من الخسائر البشرية والمادية، فحتى كتابة هذا الموضوع، يقدر عدد الإصابات بنصف مليون، وعدد الوفيات يتخطى 22 ألف شخص.   
 أما فيما يتعلق بسياقات "تسييس الوباء"، فرغم غياب الأدلة المادية المحسوسة، لم تتوقف الادارة الأمريكية من كيل الاتهامات للصين وإيران التابعتان للمعسكر الشرقي، ووصفتهما بأنهما هما الجهات المسؤولة أيضا عن انتشار الوباء، والتوجه في تسييس كورونا قد جر حكومات عدد من الدول للانسياق للحديث عن نظرية "الحرب البيولوجية".
واللافت أيضاً أن السياسي الروسي "إيغور نيكولين"، أوضح لوسائل الإعلام، أن واشنطن عملت على هذا السلاح البيولوجي وفق ألية لانتقاله إلى ايران، بُغية انهاكها اقتصادياً ومحاولة عزلها بالكامل عن محيطها، فضلاً عن رغبات امريكية تتمحور حول إحداث شرخ بين الشعب الايراني وحكومته، حيال الترويج بأن الاجراءات الصحية التي اتخذتها ايران لم تكن كافية لاحتواء كورونا، وبأن طهران هي المسؤولة عن تفشي الوباء محلياً في الداخل الإيراني وكذا عالمياً"، وبهذا، أصبحت هناك دولا تفرط في التشفي والنكاية ببعضها، وتثير حنق الشعوب على سلطاتها تحت طائلة الإهمال والتقصير.  
عودا على بدء، فإن صحت نظرية "تسييس فيروس كورونا"، يبقى أن نتسائل عن تاريخ بداية لجوء الدول لاستخدام أدوات الحرب الجرثومية: متى تم استخدامها لأول مره؟ وما الأدوات التي استعينت بها؟
ولوجنا لنشأة هذا النوع من الحروب، تظهر مؤشرات موثقة تدلل على أن استخدام الحرب البيولوجية يعود تاريخه إلى العصور القديمة، فالدراسات تشير إلى "استخدام الحيوانات النافقة لتلويث مصادر المياه، كما أن أفراد جيش السكيثيون، شعب بدوي ينحدر من أصول فارسية، غمسوا سهامهم في أجسام متحللة أو في دماء ممزوجة بالسموم في العام 400 ق.م".
الآشوريون كان لهم نصيب وافر في حرب الجراثيم، حيث وضعوا فطرًا سامًا يسمى (مهمان) في آبار المياه يصيب متناوله بالهلوسة، بينما تروي دراسات أخرى بأنه يعتقد أن "أول استخدام لذلك السلاح كان على يد القائد اليوناني سولون وذلك عام 600ق.م، حيث استخدم جذور نبات (الهيليوروس) في تلويث مياه النهر الذي يستخدمه أعداؤه للشرب مما أدى إلى مرضهم وبالتالي سهل عليه إلحاق الهزيمة بهم". كما تؤكد المصادر أنه "في عام 184ق.م استعمل "هانيبعل" الثعابين كسلاح، وذلك عندما ألقى أكياس مملؤة بالثعابين على ظهور سفن الأعداء، أدى إلى إصابة البحارة بالذعر والارتباك، وهو ما جرهم إلى الهزيمة".
وتشير الدراسات إلى أن المختصون بالمجال العسكري قد لاحظوا "أن عدد القتلى بسبب الأمراض المعدية يفوق عدد القتلى بسبب المعارك الحربية". وعلى سبيل المثال: "فقد اعتُبر الطاعون سلاحاً بيولوجياً منذ أن فتك في الفترة الممتدة من العام 1348 الى العام 1350، بما يزيد عن ربع سكان أوروبا، حتى أطلق عليه تعبير  الموت الأزرق".
وفي حقب التاريخ الإسلامي، استخدم السلاح البيولوجي ضد المسلمين خلال فترات الحروب الصليبية، وذلك عن طريق "إلقاء جثث الموتى المصابين بالأمراض المعدية داخل المعسكرات الإسلامية" بهدف نشر الأمراض الفتاكة مثل: الطاعون والجدري والكوليرا بين صفوف المسلمين".
كما لم تخلو الغزوات الاستكشافية من استخدام الاسلحة البيولوجية لإخضاع أصحاب الأرض وإذلالهم تحت السيطرة، ففي عام 1763م استخدم المهاجرون الأوروبيون إلى أمريكا بعد اكتشافها من قبل الرحالة كولومبس السلاح البيولوجي للتخلص من الأعداد الكبيرة من الهنود الحمر أصحاب الأرض الأصليين وذلك عن طريق نشر الأمراض غير المعروفة هناك، وقد كان لمرض الجدري دور هاما في القضاء على الأغلبية الكبيرة للهنود الحمر، حيث قدم قائد الحملة الإنجليزية السير جفري امهرست Sir Jefery Amherst، عام 1863 مناديل وأغطية مجلوبة من مستشفى العزل لمرضى مصابين بالجدري كهدايا إلى زعماء القبائل الهندية، ففتك المرض بالسكان الأصليين.
تلك "النجاحات التخريبية" في استخدام المواد الجرثومية، شجع القادة العسكريون لاحقا على الاهتمام بهذا النوع من التكتيك العسكري، فبدأت أوروبا وأميريكا بعد الحرب العالمية الأولى إنشاء مختبرات ومراكز متخصصة لتحضير أنواع مختلفة من الجراثيم والفيروسات الصالحة للاستخدام كأسلحة بيولوجية، وقد تزامن ذلك مع إنتاج الأمصال واللقاحات والوسائل الطبية المضادة لها.   
من جانبها، أسست بريطانيا في عام 1941 م مركز أبحاثها للأسلحة البيولوجية في بورتن Porton، وجهزت قنبلة ممتلئة بالجمرة الخبيثة Anthrax Bomb، وألقتها في جزيرة جرينارد الأسكتلندية gruiinard ، وكان من نتائجها أن أدت إلى موت قطعان من الماشية، وإغلاق تلك الجزيرة كلياً عن التجوال، والسكن، وفي عام 1942 م أسست أمريكا أول مكتب لبحوث الحرب الحيوية تابع لوزارة الدفاع الأمريكية.  كما ألقت الطائرات علباً مليئة بالحشرات على الخطوط الدفاعية السوفييتية لنشر الأوبئة والأمراض والذعر وخفض الروح المعنوية، واتهمت كل من الصين وكوريا الشمالية أميركا باستخدام أسلحة جرثومية ضدها وذلك بين الأعوام 1950 والعام 1953، كما استخدمت أميركا الأسلحة الجرثومية خلال حربها ضد فيتنام".
وفي عام 1955، كتبت صحيفة بونجي شونجو Bungi Shungi ، اليسارية، أن اليابانيين كانوا يجرون تجاربهم على الأسرى في الحرب وكانوا يحقنونهم بجراثيم مرض الطاعون، والتيفوس، أو إعطائهم مواد غذائية أو مياه ملوثة بميكروبات الكوليرا.
ثم تطورت الحرب البيولوجية خلال الحرب العالمية الأولى حيث استخدم الألمان الجمرة الخبيثة والكوليرا وفطريات القمح وزعموا أنهم نشروا الطاعون أيضا في مدينة سانت بطرسبرغ بروسيا وأصيبت البغال في بلاد ما بين النهرين.  كما أن إسرائيل استخدمت السلاح البيولوجي ضد القرى الفلسطينية عام 1948، من خلال الفيروسات والبكتيريا المسببة للأمراض.
 وبعيدا عن مسائل التنظير، سياسية كانت أم دينية، ما يهمنا اليوم هو وضعنا كدول عربيه، تلتهي حكوماتنا بالحروب الطائفية الطاحنة، وتنشغل، أيما إنشغال، بصفقات التسلح على حساب الاهتمام بمجالات البحث العلمي، فأضحت إمكاناتنا العلمية الضعيفة جدا إن لم تكن معدومة لا تسعفنا في إنتاج وتصنيع لقاحات طبية نتفادى بها خطورة مثل هذه النماذج من الأعراض الصحية، بل الأدهى أن تخلو مخازن مؤسساتنا الصحية حتى من "علب كمامات مستوردة" تقي مواطنيها من خطورة مثل هذه الأوبئة.
قد ينظر البعض إلى أن مقال كهذا تكتنفه المبالغة والتهويل، لكننا نرتأي التعبير عن أوضاعنا بشفافية لأن هناك من "التهوين" ما يدعونا إلى التحرج من الخوض في نقاشه، والعمل بمبدأ "الوقاية خير من العلاج" مفاده توخي الحيطة والحذر من ما قد يحدث في قادم الوقت، وعدم استصغار الأمور والإستهانة بها وإن تماهى حجمها بحجم هذا الفيروس الذي أصبح ماردا، فأجبرنا كما أجبر مليارات البشر  ب"الإقامة الجبرية"، وأصاب العالم أجمع بالذعر وفوبيا التسوق.
 وفي ظل غياب أية مؤشرات مخبرية للوصول إلى علاج يتفادى خطورة هذا الفيروس يتاح للجميع استخدامه، نتسائل: ما نوع الاستراتيجيات العملية التي تعيننا على إدارة الأزمات الصحية وتجاوز هذه الأزمة بالذات بأقل الأضرار الإنسانية مهما بلغت التكاليف المادية؟ أين يكمن دور مؤسسات البحث العلمي؟.
وأخيرا وليس اخرا: بعد إدراكنا بأن فيروس كورونا الذي لا يمكن رؤيته بالعين المجردة، قد أنهك الدول العضمى قبل الصغرى، مترجما ترجمة حرفية بما ذكر في الأثر الأدبي: "إن البعوضة تدمي مقلة الأسد"، نتسائل: هل سنبقى كعادتنا في وضع المتفرج تقتصر مواجهتنا لذعر إنتشار الفيروس بالإمتناع عن المصافحة، والإبتعاد عن المعانقة؟ ونلتزم فقط، إمتثالا لما توصينا به فرق المتابعة الصحية ببلداننا العاجزة عن تقديم الحلول العملية، ب"غسل أيادينا بالماء والصابون...؟"!

الأربعاء، 25 مارس 2020

وادي مجلاص: طبيعة جيولوجيه أخاذه

شلالات فلج السواقم بعد فيضانه (عدستي) 
تدوين: يحيى السلماني
وادي مجلاص أحد الأودية الشهيرة بولاية قريات، ينحدر هذا الوادي من غيول وادي السرين (غربا)، تسانده أودية أخرى كوادي عيّانه ووادي كبكب ووادي قيد، ثم ينحدر إلى بلدة القابل (طريق عرقي – صياء) ليلاقي لاحقا وادي صياء ووادي قطفات، ثم يلتقي بوادي الحريم أسفل قرية عرقي، كما ترفد هذا الوادي وادي الطابة ووادي المداوه شرقي قرية الهبوبية، ووادي بلل ووادي الجفيرة والفليج ووادي الصلحة ووادي الرحبة ووادي الحيلين، ثم ينتهي بمساره المتعرج بقرية حاجر قريات ومصبه الأخير في بحر خليج عمان (شرقا) .
وادي مجلاص، الذي يقع مدخله مباشرة إلى الشرق من قرية السواقم، يتسم بطوبوغرافيته المتميزه، ومن يسلك الطريق الترابي الرابط بين شرق الوادي وغربه، تلفت انتباهه طبقات صخرية شديدة الالتواء، تتزين بنتوءات من الطبقات "الجوراسية" تقع على ضفتي الوادي من جهتيه الشمالية والجنوبية.
ترجع الدراسات الجيولوجية عمر التكوين لهذه الطبقات الجوراسية لأكثر من 170 مليون سنة، وهي تبدو بشكلها المتموج، تضفي لمسة جمالية على روح المكان،  فتتباهى بتشكيلات من الحجر الرملي والحجر الطمي بين الطبقات الرمادية التي تبدو قد تشكلت من نوعيات فريدة من الحجر الجيري.
 هطول أمطار "منخفض الرحمه"، أعاد الحياة والحيوية لهذا الوادي الذي عانى من الجفاف لأكثر من عشر سنوات، فامتلأ فلج "الهبوبية"، وفاض فلج "السواقم"، وهكذا تبدو أشجار السمر والسدر اليوم يانعة مثمرة، ويمتلئ فج الوادي بالبرك المائية التي أضحت ضفاف جاذبة للعديد من أنواع الحياة الفطرية كالطيور  والغزلان وأعداد لا بأس بها من حيوان الطهر العربي الذي يحظى  ب"حماية خاصة" في محمية السرين الطبيعية  (حسبما شهد وأفاد بذلك عدد من السكان المحليين).
في سابق الوقت، خلال عقد السبعينات من القرن الماضي، كان الطريق الترابي بوادي مجلاص يعد أحد المسارات الرئيسية التي تربط القرى الشرقية لولاية قريات التي من بينها: قرية المسيلة، والحاجر والوسطى، بالقرى الغربية للولاية والتي تشمل: السواقم والهبوبية وحيفظ وعرقي وصياء وغيرها، وما تزال ذكرى عبور هذا الوادي من ولاية قريات مرورا بالقرى الغربية ووصولا إلى روي ومطرح ومسقط ملتصقة بذاكرة أبناء الولاية.     

الثلاثاء، 24 مارس 2020

لست كيسا بلاستيكيا

تدوين: يحيى السلماني
أضحت صناعة البلاستيك من الصناعات الهامة التي تحظى اليوم بانتشارٍ واسعٍ سواء في البلدان الصناعية أو النامية، ومنذ فترة، ليست بقصيرة، راجت فكرة استخدام المتسوقين للأكياس البلاستيكية لحمل بضائعهم ومشترياتهم، ويعود سبب انتشارها الواسع لتميزها بخواص فريدة، كرخص ثمنها، وخفة وزنها، ومقاومتها للتآكل، كما أنها تتميز في ذات الوقت بصلابة عالية، وعلى الرغم من المزايا العديدة – الانفة الذكر- التي تحظى بها هذه المادة التي أكسبتها مكانة متميزة بين مختلف المنتجات الصناعية الأخرى، ألا أن لها في المقابل أثرا واضحا في تلويت البيئة يرجعها المختصون إلى عدة عوامل أهمها: أنها تسهم في تصاعد الغازات والعوالق الصلبة الخانقة والسامة عند صناعتها وحرق مخلفاتها، كما أن مادتها التي يطلق عليها "البوليمرات" صعبة التحلل، فهي تحتوي على مواد كيميائية خطيرة تضر بصحة الإنسان والبيئة.
وتشير آخر التقارير العلمية التي نشرتها الصحافة العربية والدولية إلى أن حجم الكميات المستخدمة في التعبئة والتغليف من المواد البلاستيكية تبلغ 40 % من جملة الكميات المستهلكة سنويا، وتقدر الإحصائيات الدولية - كما أوردتها مؤخرا مجلة "البيئة والتنمية" اللبنانية - نحو 500 مليون إلى مليار كيس بلاستيكي تستعمل يوميا في أنحاء العالم في كل عام، أي بمعدل مليون كيس في كل دقيقة ولا يعاد تدويرها إلا بنسبة أقل من واحد في المائة، وبهذا تنتهي بلايين من المخلفات البلاستيكية في البحار والأنهار وتتحلل في التربة، وهي بهذا تسهم في إبادة عشرات من الأنواع الأحيائية، مشكلة عبئا بيئيا كبيرا نجد من الضروري جدا الحد من خطورته. فالمؤشرات العلمية الحديثة تؤكد أن 100 ألف سلحفاة وغيرها من الكائنات البحرية تموت سنويا بسبب الأكياس البلاستيكية فقط. 
وفي ظل التزايد المطرد لاستخدام واستهلاك المواد البلاستيكية، تنامي مؤخرا الوعي عند بعض المؤسسات بحجم المشكلة البيئية الناتجة عن النفايات البلاستيكية، حيث أصدرت حكومات عدد من الدول الأوروبية قرارات حاسمة تمنع استخدام الأكياس البلاستيكية الرقيقة، ففرضت إيرلندا –على سبيل المثال- منذ عام 2002 ضريبة تقدر بربع يورو على استخدام كل كيس، وهو ما أدى إلى التقليل من استخدام الأكياس البلاستيكية بنحو 95 %، أما في بريطانيا، فقد بدأت عددا- لا بأس به- من المجمعات التجارية تخصيص حاويات أمام مداخلها ومخارجها تحث المستهلك (المتسوق) على وضع مخلفات الاكياس البلاستيكية بها لإمكانية إعادة استخدامها وتدويرها، من بين هذه المحلات على سبيل المثال لا الحصر، التي لفتت انتباهنا أثناء تواجدنا في مدينة شيفيلد البريطانية، محلات "تيسكو" و"اسدا"، وهو ما يشجع اليوم مجموعة كبيرة من البريطانيين إصطحاب سلات قماشية (حقائب مصنوعة من القماش) خاصة بهم لوضع مستلزماتهم الشرائية بها أثناء تسوقهم، كبديل لاستخدام الأكياس البلاستيكية، كما تعرض محلات "سنسبوري"  المشهورة للمتسوقين أيضا حقائب قطنية تحمل شعار "لست كيسا بلاستيكيا"، في محاولة للترويج لفكرة "المستهلك الأخضر".
وفي المقابل تشارك الدول غير الصناعية (النامية) أيضا بفاعلية للترويج لفكرة "الإستهلاك ألأخضر"، ففي كينيا، التي تنتج نحو 400 طنا من أكياس البلاستيك الرقيقة شهريا، دعت دراسة لمعهد أبحاث وتحاليل السياسة العامة في مدينة نيروبي إلى أنه "يجب حظر أكياس التسوق البلاستيكية الرقيقة، وفرض ضريبة مرتفعة على الأكياس السميكة لتخليص كينيا من تهديد بيئي وصحي متزايد". وفي بنجلاديش فرضت الحكومة في عام 2002 حظرا رسميا لاستخدام جميع أكياس البلاستيك الرقيقة، بعد أن أثبتت الدراسات البيئية المتصلة بالوضع المناخي في بنجلاديش بأن النفايات البلاستيكية ساهمت إسهاما كبيرا في حدوث الفيضانات التي شردت ألالاف من مواطنيها في أواخر التسعينيات، حيث كانت الأكياس البلاستيكية - على حد تأكيد دراساتها المناخية- السبب الرئيس في سد فتحات أنابيب تصريف مياه الأمطار بها.
من جانبها، تعزز المنظمات العالمية أيضا هذا الدور، حيث بدأت بعض المؤسسات إدراك القيمة الفعلية للمبادرات البيئية في هذا الخصوص، وذلك بتشجيع جميع المؤسسات والأفراد لاتباع فكرة "الاستهلاك الأخضر"، ففي عام 2004 منحت المنظمة العالمية لحماية الملكية الفكرية (الوايبو) العالمة الهندية "ألكازاد" براءة اختراع لابتكارها وسيلة جديدة تستطيع من خلالها تحويل النفايات المصنعة من المواد البلاستيكية إلى وقود، مما يساعد على التخلص من هذا النوع من النفايات وحماية البيئة من التلوث، ويوصف الباحثون في مجال البيئة هذا الاختراع الذي بدأت العالمة الهندية البحث فيه مند عام 1995 ب"الثورة التقنية" في عالم حماية البيئة من النفايات البلاستيكية
أما على المستوى العربي، فبكل الأسى والأسف، رغم تأكيد الدراسات البيئية بأن العرب يستهلكون مايقدر ب 25 بليون كيسا بلاستيكيا في كل عام، ألا أنه لا توجد حتى الان أية رؤية علمية جادة أومبادرات بيئية حازمة للتخلص من مخلفات هذه الأكياس بشكل صحي وامن، فجهود الجهات المسئولة عن البيئة فيها تقتصر على صف االإقتراحات وإعلان التوصيات، ففي شهر يونيو من عام 2008 م، أكدت الندوة العربية لتدوير المخلفات البلاستيكية فقط على أهمية إيجاد منظومة متكاملة لإدارة المخلفات البلاستيكية، دون تحديد أي كيفية عملية لتنفيذ هذه التوصية.
على المستوى الوطني، فمن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن السلطنة ممثلة بوزارة البيئة والشؤون المناخية لم تغفل هذا الجانب، حيث وضعت شروطا واعتبارات لا بد من التقيد بها أثناء الشروع في تتنفيد أي مشروع يتصل بصناعة البلاستيك، من بينها ضرورة الحصول على موافقة بيئية من الوزارة والتأكد من سلامة المشروع على البيئة والصحة العامة قبل البدء في تشغيله، ويؤكد دليل إجراءات الحصول على التصاريح البيئية الصادر عن الوزارة وجوب تخزين المواد الكيميائية في مخزن تتوفر فيه إجراءات الأمن والسلامة الكيميائية، ولم يقتص الدور الوطني في هذا المجال على المؤسسات الرسمية فحسب، بل تعداه ليشمل أيضا القطاعات الأهلية، فعلى سبيل المثال لا الحصر بدأت جمعية البيئة العمانية بدور عملي ونشط في هذا المجال، حيث قامت مؤخرا بتوفير "أكياس قماشية" يمكن لجميع المتسوقين بالسلطنة اقتنائها أثناء عملية التسوق، ألا أن اللافت للنظر أن المتسوق لا يزال يخرج من مراكز التسوق المنتشرة في ربوع السلطنة بأكياس بلاستيكية، بأحجام مختلفة وألوان متنوعة، ظانا بأنها الوسيلة الوحيدة التي تعينه على حمل مستلزماته الشرائية، غير مدرك لخطورة ما ستخلفه هذه الأكياس مستقبلا من اثار صحية وبيئية جسيمة
نتسائل: ألم يحن الوقت بعد لاتباع فكرة حمل "الحقيبة القماشية" أثناء التسوق؟ باعتبار أنها الوسيلة المثلى للمشاركة في تفادي خطورة المخلفات البلاستيكة في المستقبل!!! وبعد كل هذا الطرح، ألا يحق لنا التنبيه أيضا بخطورة هده المادة التي نداوم على استخدامها بشكل يومي غير مدركين خطورتها البالغة على صحتنا ومستقبل بيئتنا؟!!
نرى أن جميع الجهود التي تبذل لتفادي خطورة النفايات البلاستيكية تأتي في الوقت المناسب في ظل تزايد استخدامنا اليومي لها، فهذه الجهود تنم أولا عن وعي المؤسسات بمختلف فئاتها وجنسياتها بمفهوم "المسئولية البيئية"، وهي جزء لا يتجزأ من المسئولية الإجتماعية التي تسهم – بلا شك- في رفع درجات الوعي بالجوانب السلبية (الضارة) لهذه المادة، كما أنها، ثانيا، تدعم الجهود الرامية إلى اتباع مقاييس ما يطلق عليه ب"الإشتراطات البيئية" التي تهدف إلى حماية بيئتنا من التلوث وصون مواردها من الإستنزاف، وهي توفر،ثالثا، ملايين الدولارات التي تنفقها المؤسسات الحكومية والأهلية للتخلص من هذا النوع من النفايات للإستفادة من مخصصاتها المالية لتحقيق مشاريع بيئية جديدة، وتدعم الدراسات العلمية التي تحاول التقصي والبحث عن أساليب متطورة وطرق علمية جادة تسهم في الحد من خطورتها الصحية على الإنسان والبيئة المحيطة به
كما لا بد أن نشير هنا إلى أهمية إيجاد منظومة عربية متكاملة لإدارة المخلفات البلاسستيكية من خلال توفير بنية تكنولوجية تعتمد على التصنيع الصديق للبيئة واتباع اساليب امنة للتخلص من مثل هده المخلفات، وفي الوقت الذي ننتهي فيه من صياغة هذا المقال، نبقى متأملين مساهمة المواطن والمقيم على أرض السلطنة للتقليل من حجم النفايات البلاستيكية، ومترقبين – في نفس الوقت- لبوادر الإسهام العربي في هذا الشأن!!!
 

المشروبات الغازية

المشروبات الغازيه...!
تحظى المشروبات الغازية بإقبال كبير خصوصا في أيام الصيف، وذلك لما تتمتع به هذه المشروبات من حلو المذاق، يتم تعبئتها بزجاجات أو علب تتنوع أشكال تصاميمها وأحجامها ومقاييسها، وما يزيد من كثرة إقبال الشباب على هذه الأنواع من المشروبات هو رخص ثمنها، حيث تعرض في مختلف المحلات بأسعار زهيدة، وقلما نتجه إلى أي موقع الا ونستطيع اقتناء زجاجة أو علبة من هذه المشروبات .
وفي ظل الاعجاب المتزايد بهذه الأنواع من المشروبات، ازدادت في المقابل شعبيتها حتى تصل إلى فئتي الأطفال والنشئ، ممن أصبحوا يتقنون تقليد من يكبرونهم سنا في اقتناء هذه المشروبات، لدرجة أن الكثير منهم أصبح يدمن، إن صح التعبير، نوعا معينا منها يعتبره الأفضل مذاقا من بين عشرات الأصناف الأخرى.
وما يعزز هذه الرغبة الشديدة لدى النشئ والشباب باقتناءها بمختلف مذاقاتها، الإعلانات التجارية التي تتفنن في عرض منتوجاتها في مشاهد ترويجية أكثر أناقة وجاذبية، حيث تبدل الشركات المنتجة والراعية لهذه المشروبات قصارى جهودها لتوسيع شعبية اقتنائها، وهي غالبا ما تركز على شريحة النشئ والشباب، هذه الفئة التي تمثل الغالبية العظمى في مختلف دول العالم وذلك لتحقيق عوائد مادية مربحة وغير متوقعة.
وبالرغم من اقتناء الكثيرين لهذه الأنواع من المشروبات الغازية، ألا أن البعض من يجهل الاثار الصحية الجسيمة التي تتسبب فيها، فحسب الدراسات الطبية يؤكد المختصون في هذا المجال بأن إدمان المشروبات الغازية يؤدي مباشرة إلى إتلاف جدار المعدة مما قد يسبب الام حادة بها وذلك لاحتوائها على مواد غازية مركزة، كما أن الإكثار من شربها يؤدي بطبيعة الحال إلى فقدان شهية الأكل عند الإنسان.
وبعيدا عن الآثار الصحية، وفي مقابل الشعبية والانتشار اللذين تحظى بهما هذه المشروبات، تظهر لنا البحوث والدراسات نتائج أخرى تشير إلى أن هذه العبوات أصبحت خطرا جديدا يداهم المجتمعات المتحضرة، فبعد الانتهاء من شراب ما بداخلها يرمي بها المستهلك غير مكترث بالآثار التي قد تتسبب في حوادث الطريق أو جرح المارة ، كما أن البعض لا يدرك ما تخلفه هذه العبوات من تشويه للمنظر العام للمدينة والقرية التي نقطن بها، ولهذا لا يقتصر الضرر هنا على الإنسان وحدة بل يمتد ليشمل جمال المدينة التي يعيش فيها.
وتبقى الجهود المبذولة من قبل مختلف الجهات والمؤسسات لا تكفي وحدها للتقليل من آثار ما تسببه هذه العبوات الزجاجية من مشاكل صحية وبيئية.
وها نحن ندعو الجميع لنكون عونا لمختلف المؤسسات للتخفيف من آثارها السلبية، مؤكدين هنا، أننا لسنا ممن ينون مقاطعة هذه المشروبات ، ولكن يتوجب علينا توخي الحذر من أضرارها الصحية واثارها البيئية ، وعلينا أن نقتدي دائما بالمثل القائل: "درهم وقاية خير من قنطار علاج"، وهو خير وسيلة للحفاظ على صحتنا ونظافة مدننا.

خور الملح موطن الذهب الأبيض

  تدوين: يحيى السلماني مع بداية فصل الصيف التي تمتد من مايو حتى شهر أكتوبر تنشط وتيرة انتاج الملح بالطريقة التقليدية في ولاية قريات. وبنهاية...